للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صلة خفية بين الأشياء وصاحبها، فلا تأخذوا الأمور على ظواهرها، فإن المريض الزمن لو حمل من الألم ما تظنه أنت حامله ما عاش، والغني لو نال من اللذة ما تحسب أنه نائله ما وسعته الدنيا، ولكن العادة تبطل اللذة والألم، وتهون السجن على السجين، والحرب على المحارب، وتجعل الخليفة الذي كان في قصره عشرة آلاف غادة من جميلات الأرض حشرن إليه حشراً، مثل الذي في بيته امرأة واحدة! إنما اللذة التي لا تفنى ولا تنقص لذة القلب، لذة التأمل، لذة المتعبد في هدأة الليل، والمناجي ربه في الأسحار. . . ومن هنا قالت طائفة الصوفية: (لو ذاق الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف). . . إي والله وبالمدافع والرشاشات!

ذلك هو النعيم المقيم، ولكن ذلك شيء لا يفسر ولا يعرف:

لا يعرف العشق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها

إنها تمر على المتعبد ساعات في كل لحظة منها لذة تفضل لذة (الوصال) كما تفضل الشمس الشمعة، والبحر الساقية، ومن ذاقها عرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ليس معناه أن نبينا مولع بالنساء - كما فهم دواب المستشرقين - ولكن سر المعنى في قرن الطيب والنساء، وهما من لذات كل نفس بشرية، ثم في رفعها عنهما، للدلالة على أن الصلاة لذة ومتعة ولكنها أسمى وأعلى. . .

إن مرد ما تجدون من عرام الشهوة وشدتها إلى أمرين: حب الغلبة، والتطلع إلى المجهول. يسمع أحدكم أن فلاناً من الفساق قد صنع كذا من الآثام، فيتصور ما نال بإثمه من اللذائذ، فيمتد أمله إلى تذوق مثله لعل فيه لذة جديدة، وتأبى عليه غريزة المكافحة والتغلب أن يبقى محروماً مما نال فلان هذا. . . ولو هو فكر، لعلم إنما اشترى فلان لنفسه الحرمان من لذة أنقى وأبقى هي لذة الآخرة، ولسكت عنه الإغراء وذهب الألم، وما يألم لفقد المعصية إلا من جعلها أكبر همه، وترك لنفسه الحبل على الغارب، فأطلقت الجوارح كلها في شهوتها: فالعين تنظر العورات، والأذن تسمع أحاديث الموبقات، والذهن يحفظ هذه الصور والذكريات، والخيال يوشيها ويزينها بالمبالغات. . . فلا ينتبه الشاب إلا والسم قد مشى في جسده من تلك النظرة، وإذا هو قد نسى الدين والخلق ومطالب الوطن، ولم يبق له في الدنيا

<<  <  ج:
ص:  >  >>