رسائله (لا تحدثوني عن (ريكاناني) إنني سأحب وطني عندما أغدو بعيداً عنه، ماذا في ريكاناني؟ هل تنظرون ما أستطيع صنعه هنا؟ فالكل يجهلونني، وأنا مؤثر الحياة في هذا الوطن الذي لا تعرفونه بدون معجم جغرافي، مستخف بكل شيء. الآن صنع الإله الوجود جميلاً، والناس يصفون العظائم في كل الأنحاء، وهنالك كثيرون من الرجال يعدون بلهاء لأنهم جربوا أن يروا وأن يعرفوا! الأرض ملأى بالعجائب)
وهكذا قضى أيامه الأولي مغترباً عن أبيه الذي دعاه مراراً وتكراراً إلى العودة، وهو يأبى ويصر على البعد إصراراً. كتب له أبوه، (وما هي الحاجة الماسة التي تدعوك إلى هجرة دارك وأهلك إلى دار لا تتمتع فيها بمثل عطفي ورضاي؟) ولكن ليوباردي كان يهمل كثيراً هذه الأسئلة، وإذا أجاب أجاب بنفس ناقمة غاضبة ثائرة، يكتب إلى أحد أصدقائه (لأسهل عليك أن تحرك الجبل من أن تدفعه (والده) إلى صنع شيء من أجلي) ثم يقول: (على أنني اخترت هذه المرحلة؛ فلا آخذ منه شيئا، ولا أطلب شيئاً) وهكذا يغلب الكبرياء على ليوباردي ويصبح شقاؤه شقاء جباراً.
أوى ليوباردي إلى الدرس يجد فيه لذته النفسية، ولكن هل كان الدرس كله راحته من عنائه، وهناءه في شقائه؟ كتب في أحد كتبه يعبر عما يجد في ساعة الدرس:
(إن سبب تعسي هو عقلي، إنني أظن أنكم تعرفون، ولكني أثق بأنكم تجهلون كيف يقتل العقل صاحبه الذي يحاول أن يفكر على غير ما يفكر به الآخرون، عندما لا يكون لهذا الصاحب من لهو غير لهو الدرس. . أما العقل فقد أعطاني ويعطيني أمثال هؤلاء الشهداء، وبهذا وحده يفرض سلطته عليَّ ويكون سبب أذاتي. وسوف يقتلني إذا لم أبدل خطتي! ألا إن العزلة ما خلقت لمن يحترقون بأنفاسهم ويذوبون بأنفسهم)
بلى! ما كان أصدق ليوباردي في كلمته الأخيرة! لأنه كان معبراً عن حالة نفسية هي فيه. فقد تسرب إليه الداء حتى أنهك قواه فشح ناظراه وساءت صحته وركبته العلة إثر العلة. ووقر على ظهره عبث الحياة فقال (إنني ناضج للموت). ولكن الموت كان يرى هذه الثمرة غير ناضجة، فتركها عشرين عاما تنضج خلالها وتحمل من آلام الحياة ما ينوء بالجبابرة حمله، تائهاً ضالاً في مسارب الشك، مستجلياً الحقيقة كما استجلاها من قبله، طالبا ما تعده من وصل، ووعدها بالوصل علالة.