أما نظرته الحادة وصوته المرنان وتألق نفسه وكل تلك الملامح القوية التي مثلها - سانت بوف - قد تغيرت في أخريات أيامه وإنما غيرها وقر الهم لا وقر الهرم، وإذا بليوباردي كما يصفه (رانيري) صديقه الوفي (ذو قامة مقوسة، ولون أبيض مشرب بصفرة، وجبهة مربعة عريضة، وعينان زرقاوين ذابلتين، وأنف دقيق، ولهجة مبهمة جافة، وبسمه ترافقها العذوبة والشقاء)
وهو يكتب عن نفسه:
(وأخيراً أتعبتني تلك الأعوام التي قضيتها في الدرس وأودت بجسدي، حتى لا يرجى لي شفاء غير الموت. وهكذا حطمت رجائي لأفهم أن الطرب لا يلائم قلبي. وإذ ذاك وجب على أن أرتدي ثياب الحداد وأن أتخذ التشاؤم رفيقاً لي لا يمكن فصله عنى إلى الأبد، نظرتُ فألفيت أن حياتي لا يمكن أن تكون إلا تعسة، ولكن هذا لم يبعثني على اليأس، فحبذا لو أن قواي تحملها بدون خوف وتحولها إلى شيء مفيد بعض الشيء)
وهكذا نستطيع أن ندرك أن أهم العوامل التي تألبت على هذا القلب فبدلت إيمانه شكلاً معذباً إنما هي عوامل جسدية ونفسية تضافرت على نضاله، وما فتئت تلح عليه وتنال منه، حتى تركته لا يهديه إلا شك، ولا يقنعه إلا جحود.
- ٣ -
في هذه العزلة الموحشة التي اختارها لنفسه ارتبط مع الأديب الإيطالي (بيانرو جيورداتي) بصلات مودة متينة، وكان نجم هذا الأديب متألقاً في سماء بلاده، وهو ممن طرح القديم وأعلن شكه فيه، وراقت له المذاهب الجديدة فأخذ بها، فتمنى لو يرى ليوباردي بعد أن سمع عنه الشيء الكثير، فقصده في عزلته فمال إليه وأعجب به وكتب عنه (إذا كان دانتي نجمة صبح في سماء إيطاليا، فان ليوباردي هو نجمة مسائها)
لليوباردي صفحة مؤثرة كتبها في ليلة تحت أضواء القمر والنجوم المشعة، ذاهبة نفسه في الليل العميق كل مذهب:
(وفي ذلك المساء كانت نافذتي مفتوحة، وناظري يتمتع في هذا الصفاء السماوي وشعاع القمر المتهادي. أتروّح نسيماً عليلاً، وأصغي إلى عواء الكلاب المتناوحة في مواطن قصية عني. فخيل إلى أن صوراً ترقى إلى نفسي وأن قلبي يتسلط عليه قلق غريب، فهتفت كمن