أصابه مس، طالباً رحمة الطبيعة التي خيل إليّ أنها تسمعني. في هذه اللحظة ألقيت أنظاري على ماضي، فتجمدت من الخشية أعضائي، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن الناس أن يتحملوا الحياة بدون أوهام ولا أفراح ولا عواطف، بدون خيال ولا هيام، وبدون ما كان يملأ وجودي قبل عام، ويجعلني سعيداً برغم مخاوفي، أما اليوم فإنني يابس كالقصبة، لا عاطفة تتمشى في حنايا نفسي البائسة، وقوة الحب الخالد الطلقة قد ماتت وهلكت في العمر الذي أنا فيه).
كم مرة ذكر ليوباردي هذه الليلة العنيفة! وكم مرة تمثلت له هذه الليلة وهو ينظر في المروج الفضية الهادئة يغمرها نور القمر وهو ينجلي وراء (الابينين، وقمم الألب الشامخة) أو يتهادى على حضن البحر اللانهائي، وسائق العجلة يردد أغنيته الحزينة، مودعا آخر شعاع النهار، ثم يردد الشاعر:(وهكذا يغادر الشباب الحياة ويتركها تخمد رويداً رويداً، والأوهام الجميلة تتطاير مع الآمال التي كانت مساعدة للإنسان، ولكن أنتن أيتها الروابي التي ينحدر عنها النور، أنتن لن يغشاكن الظلام طويلا. . . ولكن حياة الإنسان بعد فرار الشباب لن يُلوَّنها شيء، وستظل غريبة حتى النهاية. . . والقبر وحده هو الذي يضع حداً لليل عمرنا!)
وفي عام ١٨١٨ نظف الشاعر رأسه من كل شيء. طلق الإيمان وودع الأوهام، فبقي وحده وسط خرائب جسده وروحه إزاء عالم فارغ وتحت سماء من نحاس، ومنذ ذلك العهد لم يتغنّ الشاعر إلا بأنشودة الشك التي رافقته حتى ودَّع الحياة.
- ٤ -
وأخيراً نزع عنه الشك العابس كل إيمان بالله والخلود والعناية، فتلاشى منه كل شيء وانصرف عنه كل شيء، فلا آله عنده غير الطبيعة، تلك القوة العمياء التي لا تُدرك، يسألها عن سر الأشياء فتجيبه (وأنا طائعة للمقادير، أما أسباب الأشياء فهي ألغاز، لا أنا ولا أنت نستطيع إدراكها، فالأجدر ببني الإنسان أن يصرفوا عيونهم عن هذه الألغاز التي تقلقهم، فإن حلها كما خُيِّل إلينا انه صار قريباً زاد عنا بعداً)
لننظر ما هو الإيمان الجديد الذي اعتنقه الشاعر في بعض مقطوعاته (مومياء تُبعث) بعثاً مقيداً بلحظة زمنية، يسألها فيها (كيف ماتوا وماذا وراء الموت)؟ ولكنها تجيب (اسكت! لم