فقد اعتزم أن يشتري منه كل صباح لحم خروف بدينار ليفرقه على طائفة من المحتاجين. ثم أعطاه - من فوره - ديناراً لامعاً مشرق الجدة. وانتهزها التاجر فرصة للتبرك بنقود هذا الشيخ الصالح، فاعتزم أن يدّخر ديناره حتى ينتهي العام، فيشتري بها ما يحتاج إليه من ماشية وأغنام، فأسقط الدينار من ثقب في أعلى درج خفي. وجرى كلاهما على عادته: يشتري الشيخ كل يوم خروفاً بدينار، ويضعه الجزار في صندوقه، حتى إذا أشرف العام على نهايته، فتح التاجر درج النقود المدّخرة، فهاله ما رأى، وفزعه أن يجد أوراقاً صفراً مستديرة - بعدد أيام السنة - مكان الدنانير الصفر الجديدة التي أخذها من الشيخ.
وسرعان ما تبين التاجر جلية الأمر، وعرف حقيقة الشيخ وأدرك أنه مدلس كبير وساحر خطير، فتربص به وهو يكاد يتميز من الغيظ، حتى إذا أقبل (أبو تميم) اندفع إليه الجزار صاخباً لاعناً مشّهراً بسوء فعلته.
وثمة عرف الساحر أن أمره افتضح، وسره وضح. فهمس في أذن التاجر مستعطفاً يرجوه أن يخفض من صوته حتى لا يسيء إلى سمعته، واعداً إياه بمكافأة سنية عاجلة إذا صفح عن زلته، وتجاوز عن إساءته. فلم يزد الجزار إلا تمادياً في صياحه وتشهيره، ووعيده ونكيره. وأقبل الناس يحاولون أن يهدئوا من ثورته الجامحة وهو آخذ بتلابيب خصمه، ممعن في هياجه، متماد في لجاجه، حتى إذا يئس الشيخ من صفح التاجر قال له منذراً متوعداً بصوت ثائر، مجلجل في أجواز الفضاء كأنه الرعد القاصف:
(لقد صبرت عليك طويلاً، فلم تزد إلا تمادياً وإصراراً، فاعلم أن لكل شيء اَخراً، وأن للحلم حداً لا سبيل إلى تجاوزه. وإني منذرك - على ملأ من الحاضرين - أنني معلن ما خفي من أمرك، ومذيع ما بطن من سرك، إذا لم تكف عن هذيانك وخرافاتك، وتقلع عن إساءتك وترّهاتك) فاشتد غيظ التاجر على الساحر وقال له في تهكم الساخر:
(وأيّ تهمة يستطيع مثلك أن يعزوها إليّ؟).
فأجابه الساحر في جرأة سافرة، ووقاحة فاجرة، وقد جمع كيده وسحره، وحشد مكره وغدره:
(أستطيع أن أعلن لهم حقيقتك وأفضي إليهم بما تقترفه من فنون الإجرام وكبائر الآثام، فأدلهم على ما تخفيه في الصندوق من رءوس الآدميين الذين تذبحهم كل يوم لتبيع الناس لحومهم بعد أن تخفي رءوسهم).