للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولم يكد الساحر يتم فريته حتى أسرع الناس إلى دكان الجزار فرأوا مصداق ما افتراه الساحر بعد أن خيل لهم سحره أن لحوم الخراف المعلقة لحوم بشرية، والرؤوس التي في الصندوق رؤوس آدمية. ولم يتمالكوا من فرط غيظهم أن ينهالوا على التاجر سباً وشتماً وضرباً ولكماً، حتى إذا أغمي عليه رآها الساحر فرصة سانحة للهرب، فتسلل إلى بيته ناجياً بعد أن أفلحت مكيدته ونجحت دسيسته.

وذاعت قصة التاجر، فأقبل القاضي عليه، بعد أن زال سحر الساحر، فلم ير إلا خرافاً معلقة لحومها على باب الدكان. فلما فتح الصندوق لم ير إلا رؤوسها. ولما أفاق التاجر عرف القاضي منه تفصيل ما حدث. فأدرك - حينئذ - براءته من تلك التهمة النكراء، والخزية الشنعاء، بعد أن هدم شرفه ولوثت سمعته. ولم يلبث أن ذاع صيت هذا التاجر بين الناس، بعد أن رأوا من المظاهر الكاذبة ما أقنعهم بأن الشيخ جان أثيم، وشيطان رجيم، وإن دلّ مخبره على أنه محسن رحيم وملك كريم.

مات هذا التاجر المحسن اليوم - بعد أن مرّ على قصته ربع قرن - وكان مشيّعوه إلى قبره يذكرونها متعجبين لما أصابه من كيد الساحر الأفاك. أما أنا فقد وعيت قصته منذ طفولتي، فلم أقع في مثل هذه الورطة مع أحد من الأشرار - وما أكثر ما لقيت منهم - فقد وجدت في التغابي مهرباً من الاشتباك معهم في صراع قلّ أن ينتهي بخير.

وقد آثرت أن يتهمني الأغرار بالغفلة على أن أزج بنفسي في محرجات لا أدري كيف أخرج منها.

وطالما ذكرت ما دار بين عمرو بن العاص ومعاوية من حوار معجب حين قال أولهما للثاني مفاخراً بلباقته وسرعة خاطره: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).

إلا عرفت كيف أخرج منه وكيف أجابه معاوية بقولته الحكيمة: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).

وقد وعيت قصة الساحر وحكمة (معاوية)، منذ عرفت الحياة، فانتفعت بهما أيما انتفاع.

أذكر على سبيل المثال أنني كنت أمشي - ذات يوم - في الفلاة، فأحسست وقع خطوات تقترب مني، فأرهفت أذني - دون أن ألتفت إلى الوراء - فسمعت همساً أدركت منه: أن لصين يأتمران بسرقتي. وليس معي شيء يسرق غير الحمار. فلم ألتفت إليهما خشية أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>