للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشرهون الجياع أن الانطلاق من هذه القيود إلى الحرام المشتهى والثراء المرجو، أسهل على نفوسهم من تكلف العفاف وإضاعة الفرصة، فاحتكروا السلع، واغلوا الأسعار، وطففوا الكيل، واخسروا الميزان، وأقاموا في ظلمات الطرق وفي كهوف الأرض سوقاً سوداء يستغلون فيها عُرى الفقير وجوعه ليسلبوه ما تجمع في يديه من ثمن عرقه ودمعه. وظلت الحرب بضروراتها وشواذها تركم على أجسادهم اللحم والشحم، وتكدس في خزائنهم الأوراق والأرزاق، حتى أصبحوا في المجتمع المصري طبقة متميزة لها طابعها الخاص، وسمته الفرد، وهندامها العجيب، وحياتها التي أصبحت للتصوير الهازل والصحافة الفكاهة مدداً لا ينقطع ومنبعاً لا ينضب!

أسخطني على هذه الطبقة الجديدة قصة سمعتها عن أحد أعيانها البارزين سأقصها عليك. وليست هذه القصة أول القصص ولا آخرها، فإن أغنياء الحرب ينفجرون كل يوم من فرط السمن والانتفاخ، فيكون هم من الشظايا والضحايا ما لهذه القنابل التي لا نزال نسمع انفجارها في الطرق أو في الملاهي!

أستزارني يوم الأحد الماضي صديقي الأستاذ (ج) في دارته الجميلة بالدقي، فزرته في وقت الشاي، وكانت الشرفة التي اختارها لجلوسنا تنظر إلى دارةٍ تقابل دارته، إلا أنها أوسع وأرفع وأفخم، ولكن أنماط الناس الذين يدخلونها أو يخرجون منها أو يحفون بها لا تأتلف مع جمالها ولا ترتفع إلى مستواها. دع هذا الصياح الذي يتفجر فيها، والزياط الذي ينبعث منه، فربما كان أصحاب الدارة غائبين والخدم ينفسون عن حريتهم المكظومة بهذا الهرج. فسألت صديقي من باب الكلام الذي يقصد به تحريك اللسان قطعا للصمت أو فتحا للحديث:

لمن هذه الدارة الفخمة؟

فابتسم صديقي وقال وهو يشير إلى امرأة تجلس وحدها على مقعد من مقاعد حديقته:

لهذه المرأة!

ونظرت إلى المرأة التي أشار إليها فوجدت جسما كالخيال دقيق الشبح معروق العظم تستره ملاءة لف من الطراز الذي كانت تلبسه الخادمات قبل أن يصبحن (أرتستات) حرب! فقلت لصديقي وأنا أبتسم كما يبتسم: ماذا تعني؟ فقال: إنما عنيت ما قلت، وهو أن تلك الدارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>