للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لهذه المرأة، وهي مع ذلك لا تجد اللباس ولا تملك القوت، ولا يمر أسبوع دون أن تزورني مرة أو مرتين لألتمس لها من جانب هذا الثراء الضخم فضلة من الرزق تمسك الرمق وتديم العفة، ولكن!!

فقلت له والتعجب يترقرق في عيني ووجهي: لم أفهم ما تريد فماذا تعني؟

قال بلهجة الجد: أعني أن هذه المرأة زوجة صاحب الدارة، وهو فلان الغني الذي يسميه الناس (الطبلاوي أفندي) لأن بطنه المنتفخ المتسع المستدير يجعله أشبه بضارب الطبل العظيم حين يحمله على صدره. كان هذا الرجل فقيرا غير شريف، ووضيعا غير متواضع، تزوج وهو في تلك الحال من هذه المسكينة فولدت له خمس بنات وثلاثة بنين أكبرهم كما تقول لا يبلغ الرابعة عشرة، وكانت تعيش معه هي وأولادها على الكفاف، تساعده في حدود ما تستطيع بالعمل والتدبير والتقتير والقناعة، وتحتمل سرفه ونزقه بالصبر والإغضاء والنصيحة، حتى أدركته (نعمة) الحرب في سنتها الثالثة، فوصلت حباله بحبال المتعهدين لجيوش الحلفاء بالمواد الغذائية فشاركهم في الجمع والتوريد، وانفرد عنهم بالمصانعة والمهاواة، حتى استطاع بجرأته بعد قليل أن يدخل على رؤساء العمل الإنجليز من الباب الخلفي، فعاملهم بالغش وشاركهم في الربح، واستعان بهم على إخراج المحظور من السكر والرز، وإدخال الممنوع من الحشيش والأفيون؛ فتساقطت على رأسه وقفاه رزم البنك نوت تساقط البرد الغليظ، حتى اجتمع له في نهاية الحرب ربع مليون جنيه!

ومنذ رحل جيوش الحلفاء خلع الطبلاوي رداء العمل، وحشر نفسه في صفوف المترفين والعلية، فألفف جسمه بالحرير، وختم أصابعه بالماس، وعدد الألوان الفاقعة في بذلته وحذائه؛ ثم خلا جسمه المنهوم يضخم ويسترخي وينبعج جانباه، وترك شاربه الخشن يغلظ وينتفش ويطول سبالاه؛ ثم اقتنى الضياع والعقار، واشترى الرلزرايز والباكار. وكان يطلب الأغلى من كل صنف، والأعلى من كل شئ. ولا شك في انه هو الذي تحدث الظرفاء عنه بأنه استشار الطبيب فأشار عليه بفيتامين بيه فقال له: ولم لا تشير بفيتامين باشا؟ وانه طلب إلى رسام أن يرسمه فسأله: أتريد الصورة بالزيت؟ فقال له: كلا، بل أريدها بالسمن. وأن طبيب الأسنان أراد أن يصنع لأحد أضراسه المنخورة غلافا من الذهب، فطلب إليه أن يصنعه من الماس! ثم سكن هذه الدارة وألقى زمامه في يد الغاوين

<<  <  ج:
ص:  >  >>