الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس، ملاكها أن تكون أصيلا في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، واكنه مضطرب الدلالة، مختلط الألوان، تفه المذاق، لا تستقله روح، ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة، ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر)
وكان من حق الأصالة في الشعور والتفكير أن تنال من الأستاذ ما نالته الأصالة في الأسلوب والتعبير، فالمعاني والأحاسيس ليست شائعة ملقاة على جانب الطريق، وإلا فأين تذهب الطبائع الأصيلة الممتازة التي ترى الدنيا والأشياء بعين خاصة، فإذا هي تعيش في كون خاص بها من صنع أحاسيسها وتفكيرها؟
تلك فلتة من فلتات الحماسة للبلاغة من صاحب (دفاع عن البلاغة) يرد بها الغلوّ في إنكار قيمة التعبير، فيجعل المزيّة كلها للتعبير
على أن الأستاذ يعود فيضع الأمر في نصابه إلى حد كبير في ص ٧٨ حين يقول:
(خلص لنا من محض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة، كما يتكون الماء القراح من الهيدروجين والأكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزأيه. ولا أقصد وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب إنما أمدُّ الشَّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهيدروجين إلى الأكسجين في الماء! وإذن لا يعد من الأساليب ألفية تلك المعاني الحكيمة التي تعرض في معرض بشع من الركاكة والغثاثة والتعقيد والخطأ، ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة)
ففي هذا التقرير قصد ودقة تعود بنا إلى الحقيقة الأولى التي اتفقنا عليها، وتحسب لكل من الفكرة والصورة حسابها الصحيح