سواه، لأنه ينظم الشعر جيدا، ويكسوه رداء غير فضفاض من الموسيقى ذات النغم الخالد، ثم ينشده بصوت يشيع الطرب في النفوس، ويدفع السأم عن القلوب، ولا يسع المرء إزاء إلا أن يستزيده ويقبل على الإصغاء إليه.
وتمعن الدنيا في التنكر لذلك الشاب العاطل زوج الفتاة، فتكبل بالحديد يداه، ويزج به بين غياهب السجون لإثم اقترفه ويختلف وراءه زوجة وطفلا يعانيان من نكد الدنيا أمره.
ولكن الأيام بالأحداث حبالي، فإن الشاعر الموسيقار وإن سخت عليه المقادير بالمال والجاه، لم تسخ عليه بغذاء قلبه؛ وإن واتته الشهرة والمجد، لم تواته عاطفة الحب بأكلها، فأنسى ظامئاً يتلهف على ري نفسه فلا يستطيع، وسرعان ما تذيل زهرة العمر وتنزل المنية به وهو في شرخ الشباب وأوج المجد، فينعاه الناعي من المذياع الذي طالما تردد صوته منه فأطرب وأشجى، وتستمتع إليه محبوبته التي فرقت الأيام بينهما، فينزل عليها النبأ نزول الصاعقة، وتصبح في اليوم التالي نزيلة صومعة من صوامع مستشفى الأمراض العقلية.
هذا موجز قصة (ليلة النهر) التي وضعها الأستاذ باكثير، وصاغ لها قصائد ثلاثاً من جيد الشعر، ولم يقنع المؤلف بسرد أحداث تتكرر في روايات أخر، بل رأى أن يضيف إلى ذلك عنصراً جديداً يمكن تسميته (عنصر الخفاء) وذلك لأنه جعل الشاعر بطل الرواية يتصل - في هيام روحه - بروح شاعر مات بعدما حرقت جميع لأشعاره، فاخذ يملي عليه ما ضاعت آثاره من شعره. فالشاعر العاشق في الواقع ليس سوى رواية لشعر غيره، ورجع لصداه، يقبل الشعر عليه من غير جهد فيسجله وتتوارد إليه عند تسجيله النغمات الموسيقية الملائمة، فتكتمل لها ناحيتان تضاف إليهما ناحية الغناء فيتم الثالوث الغني المطلوب.
وهذه الرواية ضرب من ضروب الحب العذري العفيف الذي يحرص الأستاذ على أحمد باكثير على أن لا يتجاوز في ما يكتب من الروايات كروايتي (سلامة القس) و (وا إسلاماه) اللتين أصدرهما من قبل وعلى الرغم من أن المؤلف (خلق) في رواية (ليلة النهر) رجلا من رجال الفن وأدار أحداثها حول بطولته، أبى أن يسمح لهذا البطل بالاستهتار والتبذل واحتساء الخمر، والإقبال على مشهيات الحياة. وقد يحسب البعض أن في هذا (الاعتدال) الذي أتصف به بطل الرواية تكلفا وخروجا عن المألوف، واكن الناقد المنصف لا يسعه إلا