ولهذا اقدم ملتن فيمن اقدموا لمحاربة الأسقفية؛ ولهذا اعتزل الارثريادا أو الفردوس المفقود، أو سواها مما كان يملا خيالة من الشعر، وآثر أن يجيب داعي الله بالدفاع عن دين الله
بيد انه على الرغم من حماسته إذ يقدم على مناضلة القساوسة كان يحس في أعماق نفسه عظم تضحيته بهجرانه الشعر، فلقد انقطع له منذ حداثته، وتوفر على الاستعداد والدرس، وأمتلات نفسه طموحا إلى شيء يسلكه في الخالدين؛ وكان هذا الطموح عزاء قلبه وبهجة نفسه وأنس روحه في عزلته القاسية، وفي دراسته الطويلة الشاقة!
ولكن لم يك من هذا الهجران بد، فلم يك يسعه في مثل ذلك الوقت كما قال أن يقف بمعزل (وكنيسة الله تحت أقدام من يهينها من أعدائها)، ولم يك لينجو من عذاب ضميره لو لم يجعل ما اكتسب من ثقافة ومعرفة وقفاً على الدفاع عنها، وفي رأيه انه إذا لزم الصمت، فان الله يؤاخذ بصمته، فلن يغفر الله له أن يقبل الفراغ والقدرة على الدرس، وقد تهيأ له بعروق قوم آخرين، ولا ينفقهما ألا في أن يزين بهما موضوعات هي من فخر الحياة وغرورها، ولكن (إذا كانت قضية الله، وحقت إجابة داعي الله بنصرة كنيسته، فان الله سميع إليك إذ تطلق صوتك. .
فان بقيت ابكم كالدابة، حق عليك منذ ذلك الوقت ما تصير أليه من أثم بصمتك الذي يشبه صمت البهائم!) ولئن كان همه أن يكتب موضوعاً يكسب به الفخر، فليس هذا وقته والجيل كله يشترك في صراع من اجل الحرية تتلظى ناره، إن يشهد على الأقل ذلك الصراع، وينتظر الناس وأنفاسهم عالقة ما إذ يكون من أمر هذه المعركة، أو كما قال ملتن (انه لمن الحمق أن تلقى بشيء كتبته جاهداً في نسق عال إلى قوم هم عنه ساهون، إذ يقطع إصغاءهم أليه ما يزخر به عصرهم من ضجيج وصخب). أضف إلى ذلك انه لم يكن يعتقد انه اخذ اهبته لذلك الشيء بعد، فانه يشير إلى ذلك حتى بعد بدء الحرب على القساوسة بنحو عام قائلا:(أني لم استكمل بعد في عقلي دائرة دراساتي الشخصية)!
لذلك يدع قيثارته إلى اجل لعله يكون قريبا يوم يرى وطنه على حد تعبيره:(وقد خلص نفسه من ذلك الطغيان الذي لم يكن مثل هذا الزمن أوانه، ذلك الطغيان المستند إلى مقام كبار القساوسة، والذي لا يرجى لأي فكر حر أو ذكاء المعي أن ينمو ما دام له تجسسه واستبداده) وتمت دافع آخر لا يقل خطرا على هاتيك الدوافع يسوق ملتن إلى تلك الحرب،