عليها، كأنها لم تكن من قبل الابنة المدللة المحبوبة، التي لا يرد لها، لو طلبت، طلب، ولا يخيب لها رجاء. وآلمه أن يراها تفرح إذا أكلت بقايا أختها وأبيها يسرقها لها سرقة من غرفة الطعام، وعادت صور الماضي فتدفقت على نفسه وطغت عليها ورجعت صورة أمه فتمثلت له، وسمعها تناديه. . لقد تجسم هذا الخيال الذي كان يراه دائما ماثلا في نفسه، حتى رده إلى الماضي وأنساه حاضره. . ولم يعد يرى في أخته البنت اليتيمة المظلومة؛ وإنما يراها الطفلة المحبوبة التي تجد أماً تعطف عليها، وتحبها. .
ونسى دفتره الممزق، ومستقبله الضائع، وحياته المرة، وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنيه. . إلى صوت أمه. .
- قومي يا حبيبتي، إلا تسمعين صوت أمك، تعالي نروح عند ماما!
فأجفلت البنت وارتاعت، لأنها لم تكن تعرف لها أما إلا هذه المرأة المجرمة. وخافت منها وأبت أن تذهب إليها. لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة أجمل صورة عرفها الإنسان: صورة الأم!
- تعالي نروح عند ماما الحلوة: أمك. . إنها هناك في محل جميل: في الجنة. . إلا تسمعين صوتها؟
وحملها بين يديه، وفتح الباب، ومضى بها. . يحدوه هذا الصوت الذي يرن في أذنيه حلواً عذباً، إلى المكان الذي فيه أمه!
وقرأ الناس في الجرائد ضحى الغد أن العسس وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدا في الرابعة عشرة، وقد حملا إلى المستشفى، لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر، أما الغلام فهو على أبواب الجنون، فهو لا يفتأ يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه. . . والمرأة التي تشبه الأفعى!