للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الاجتماعية، وتولد المعاني الحضرية، واقتباس الآراء الفلسفية. ثم أترف المسلمون، وتقبلوا في أعطاف النعمة، وتأنفوا في مظاهر العيش، فظهر طوره الرابع في أسلوب ابن العميد المنمق المسجوع. والى هنا كان التطور في النثر الفني تطورا طرديا يسير من الضيق إلى السمة، ومن الجزالة إلى الرقة، ومن الترسل المتوازن إلى الصنعة المطبوعة. فلما ضعفت الخلافة وقام بالأمر غير أهله بدت على الكتابة أعراض الفساد والوهن، فكثرت المعاني المزيفة، وانتشرت الصنعة المتكلفة؛ وكان من ذلك مذهب القاضي الفاضل وهو الطور الخامس من أطوار الأسلوب العربي، غلا فيه أصحابه حتى أفسدوا الفكرة بالتفاهة والمبالغة، وشوهوا الصورة بالزخرف الكاب والسجع المجتلب. ومن هنا كان رد الفعل بظهور طريقة ابن خلدون، إذ رغب عن السجع، وزهد في البديع، وسار باللفظ وراء المعنى. وقد صرح بذلك في كلامه عن كتابته لأبي سالم أحد ملوك الأندلس قال:

(وكان أكثرها يصدر عنى بالكلام المرسل، بدون أن يشاركني أحد ممن يتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف احتمالها وخفاء المعاني فيها على أكثر الناس، بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة).

(وآثر النابغون من خريجي المدارس المدنية الحديثة الذين وقفوا على آداب الفرنجة، الطريقة الخلدونية على الطريقة الفاضلية، لجريانها مع الطبع، وملاءمتها لروح العصر، ومشابهتها لأساليب الغرب، فظهرت مهذبة عذبة فيما كتب قاسم أمين، وفتحي زغلول، ولطفي السيد، ومن جرى مجراهم. وانفرد بالأسلوب البديعي رجال دار العلوم ومن يمت بسبب إلى الأزهر، من أمثال الشيخ حمزة فتح الله، وتوفيق البكري، وحفني ناصف، ومن حذا حذوهم. وبدت على أسلوب هؤلاء مظاهر التكلف، فأسرفوا في المحاكاة، وأوغلوا في الصنعة، وتشددوا في القياس، وتصعبوا في استعمال اللغة. كما بدت على أسلوب أولئك مظاهر التطرف، فتجوزوا في القواعد، وتسامحوا في اللغة، واستخفوا بجمال الصياغة، وهبطوا إلى مستوى العامية. وفي ذلك الوقت نشأت على أقلام عرب لبنان النازحين إلى الأمريكتين طريقة ثالثة فيها الفكرة والطرافة والحركة والتنوع، ولكن فيها الركاكة والتساهل والدخيل والعجمة. فكان من رد الفعل الذي لا بد منه لهؤلاء الطرائق الثلاث أن تنشأ طريقة رابعة تأخذ من محاسنها وتخلو من مساوئها فترتضيها الأذواق جميعا. تلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>