كانت طريقة إحياء الأسلوب العربي الخالص مكمل النقص بما فاته من صور البيان، لانقطاع أهله عن مسايرة التمدن الفكري الحديث. استبانت هذه الطريقة في نثر المنفلوطي، كما استبانت في شعر البارودي. ثم نهجها الكتاب الموهوبون المطبوعون فتميزت بالرقة والدقة والسلامة والرصانة والقصد. ثم نبغت طائفة من الكتاب جمعوا بين ثقافة الشرق القديم وثقافة الغرب الجديد، فبلغوا بالنثر الفني منزلة لم يبلغها في عصر من عصوره. فالأسلوب الذي كتب به المنفلوطي والبشري والرافعي، ويكتب به العقاد وطه حسين والمازني، هو ثمرة التطور الحديث في الأدب والعلم والفن والحضارة. وهو إن اختلف بين الكتاب في القوة والضعف، والعمق والضحولة، والدقة والتجوز، والتركز والانتشار، يشترك في الصفات الجوهرية للغة وهي الصحة والنقاء والمرونة، وفي الخصائص الأصيلة للبلاغة وهي الأصالة والوجازة والتلاؤم. . .)
لقد استطردت في الاقتباس من هذا الفصل القيم، لأنني معجب بتصوير هذا التطور والتسلسل في ذلك الحيز الضيق بمثل هذه النصاعة؛ ولأنني أريد أن ادعوا وزارة المعارف للانتفاع بهذا الفصل خاصة - إن لم يكن بالكتاب كله - في مدارسها ومعاهدها بدل تلك الفصول القاصرة البائسة التي يدرسها طلاب المدارس الثانوية!!
والآن قد استعرضت وناقشت الأسس العامة في كتاب (دفاع عن البلاغة) يعن لي أن أناقش بعض الموضوعات الفرعية التي جاءت هنا وهناك في الكتاب.
يناقش المؤلف رأيا لأميل زولا في البلاغة، واستعراض هذه المناقشة مفيد في بيان رأي المؤلف وزيادة إيضاحه.
قال إميل زولا:
(ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكتاب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقا يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغير والزوال بسرعة. ولا بد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حيا؛ ولا يمكن أن يكون حيا إلا إذا كان حقا. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية).