للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يكون من وراء كتيباته أثر عميق في أهان الناس ونفوسهم وضجيج شديد يتجاوب العصر صداه. ولقد نجح فيما أراد نجاحا كبيرا فهز نفوس قومه هزا قويا وزلزل القساوسة زلزالا شديدا.

وكان الأسلوب ملتن في الجملة أسلوب الشاعر العظيم إذا كتب على غير أصالة منه في النثر، لذلك كان يأتي بكثير من الصور والآيلة الشعرية في مجازاته وتشبيهاته واستعاراته ويستغرق في المحسنات اللفظية ما وسعه الاستغراق، كما كان يعمد إلى الميثولوجيا أحيانا فيخيل إليك من بعض فقراته أنك تلقاء شعر لا ينقصه إلا الوزن والقافية، على أنك تقع بين الفينة والفينة على صفحات له يشرف بها على الغاية من بلاغة العبارة وإشراق اللفظ ومتانة السياق وبراعة الاتزان بين الجمل والاتساق.

أما آراؤه التي أوردها فيها وإن لم يقصد إلى ذلك فترينا أنه كان حتى ذلك الوقت مؤمنا بعقيدة الثالوث في أصالتها وإن كان برسبتيريا من حيث دارة الكنيسة، بيوريتانياً من حيث المذهب مع شيء غير قليل من الاعتدال، ملكيا من حيث السياسة، كما ترينا أن أقوى عواطفه يومئذ كانت عاطفة الدفاع عن الحرية وشدة محبته إياها. . .

على أن حبه الشديد للحرية سينتهي به فيما سنرى من تطور فكره إلى انطلاقه من تلك الآراء جميعا، فينفر من عقيدة الثالوث ومن مثيلاتها من العقائد لأنها تستند إلى العقل ولا تتفق مع ما يحب من حرية الفكر، وينفر من البرسبتيرية لأنها نظام جامد لا تسلم له أن يعيش ويفكر كما يرى، وينفر من الملكية لأنها سوف تقيم الدليل في السنوات المقبلة على تمسكها بالاستبداد وكراهتها روح الحرية.

ولقد كانت هذه الكتيبات آخر ما كتب وقلبه عامر بالأمن ونفسه متطلعة إلى النصر، فلسوف تنهار الآمال واحدا بعد واحد، فيتزوج بعذراء فيجد الصدمة الأولى لآرائه وكبريائه في هذا الزواج ويكون من أشد ما يعكر عليه مستقبل حياته؛ وتظهر له البرسبتيرية وليست أقل تعصبا وحماقة من الأسقفية؛ ويلتفت باحثا عن الحرية فلا تنزل من السماء كما أمل واستبشر لتجعل من انجلترة مدينة الله على الارض، ويقلب الشاعر كفيه في حسرة ويبتئس قلبه الكبير وتنكدر روحه العظيمة فيفقد الثقة في الأرض ومن عليها ويتجه ببصره صوب السماء، ويلتمس في التغني بألحان فردوسه العزاء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>