للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فهذا كلام له وزنه في تقدير الرجال؛ وهو جدير بأن نوجهه إلى كل رجل ينكر قيمة الشعر، وينتقص محاسنه.

وإن المتصفح لتراجم العلماء ليرى فيها نفحات أدبية، ولطائف شعرية، تروع وتعجب، ولا يمكن لمثلى في هذا المقام أن يستقصى، وإنما هي نماذج أنشرها وفيها غناء.

كان أبو حازم الأعرج من فضلاء التابعين، وله في الزهد والورع أخبار وأحاديث، وقد خرج يوما يرمي الجمار فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يفي كتابه العزيز (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فقالت: إني من اللائى قيل فيهن:

أماطت كساء الخز عن حر وجهها ... وألقت على المتنين برداً مهلهلا

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا

فقال أبو حازم لصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها الله بالنار. فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم!! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اغربي عليك لعنة الله.

وهكذا تأخذ الأريحية هذا العابد المتزهد فيكون مثلا في رقة العاطفة وتقدير الجمال، فهو لم ينسك نسكا أعجميا، ولا جفا طبعه وغلظ حسه فيغمض عينيه ويسد أذنيه دون هذه البدائع.

وربما بلغ الشعر ببعض الفقهاء إلى أكثر مما نتخيله، ولكنها سجاحة النفس، وقوة تأثير الشعر فيها، قال أصحاب القاضي محمد بن عيسى الأندلسي: ركبنا لبعض الأمر في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف، فخانته رجلاه واستند إلى الحائط وأطرق. فلما قرب القاضي منه رفع رأسه وانشأ يقول:

ألا أيها القاضي الذي عم فضله ... فأضحى به في العالمين فريدا

قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا

فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزمان جليدا

وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ... تروح بها في العالمين فريدا

<<  <  ج:
ص:  >  >>