فأطرقت الفتاة قليلا، ثم رفعت رأسها وحملقت في وجهه وقالت:
- إذا كان هذا التعارف يرضيك، فليكن، اسمي كلوديت رانجون تلميذة في المدرسة الطبية.
قال: ولي الشرف بأن أقدم لك نفسي: أنا سعيد اللبان. من الشرق. وأقطعن باريس مؤقتا.
وسارا معا بمحاذاة نهر السين إلى أن عبرا الجسر المؤدي إلى اللوفر ومنه إلى حديقة التويللري، فتجولا في دروبها بين الزهور والرياحين وكانا يتنقلان في حديثهما من موضوع إلى آخر، إلى أن قالت الفتاة في معرض كلامها عن جان جاك روسو ونظرياته إلى أودعها في (العقد الاجتماعي).
- أجل. . . يجب أن نعود إلى أمنا الطبيعة. . . ألا تكفى خيرات الأرض لإعاشة الناس؟. . . وما الأفضل للمرء: أأن يعيش في جو خانق من دخان المصانع والمعامل، أم أن ينشئ بيته في الغابات الواسعة، ويستنشق الهواء الطلق، ويشرب المياه العذبة، وينام وينهض على تغريد الطيور؟
قال: أتعنين بذلك إقامة مخيمات؟
قالت: كلا إنني أعني إعادة تنظيم معيشة الناس طبقا لحياتهم الفطرية الأولى، ولكن على مستوى عال من العلم والثقافة.
ثم أخذت تقنعه بأن الإنسان جبل من طينة طيبة، غير أنه في مراحل تطوره خرج عن اتجاهه الطبيعي وأساء التصرف بما محته إياه الطبيعة من خيرات وغدا مخلوقا شاذا أنانيا جائرا، وخلصت إلى القول بأن البشرية لن تجد الراحة والطمأنينة إلا بوضع عقد اجتماعي يكفل للناس حقوقهم.
أخذ المساء يسدل ستاره على باريس وبدأت العاصمة الفرنسية تبدو رويدا رويدا بلباس السهرة المحلى بالألوان الزاهية، وكانت الأرض تلفظ جماعات من الناس عائدين إلى بيوتهم، وتبتلع غيرهم ممن يسكنون الضواحي. . ولما بلغا في مسيرهما خطة مترو (الأوبرا) قالت له كلوديت: إلى هنا ينتهي بنا المطاف. . استودعك الله.
قال: عفوا. . لقد شوقتني بحديثك عن حياة الغابات، أفلا تعرفين غابة بالقرب من باريس