للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تكون بمثابة نموذج صغير للمكان الطبيعي الذي تودين المعيشة فيه؟. . . .

قهقهت كلوديت وقالت:

- بلى. . . أعرف غابة (كلامار). . .

قال: هل لنا أن نتنزه فيها يوم الأحد؟

فهبطت الفتاة درج المترو وقالت (انتظرني يوم الأحد الساعة العاشرة صباحا عند مدخل محطة (مونبارناس) ومنها سنذهب إلى (كلامار) فإلى اللقاء. . .

أي شعور غريب يستولي على المرء إذا ما ولج الغابة؟. . . طرق سعيد وكلوديت غابة (كلامار) فكانت الأشجار الباسقة تحجب عنهما نور الشمس، ما خلا خيوط لها ألوان قوس قزح تسربت من خلال الأغصان، وأنارت الدغال التي سقطت عليهما وساعدتهما على اجتياز دروب الغابة المعوجة وشعاب مسالكها الضيقة. . وكانت الغربان تنعق هنا وهناك وهدير المياه يصل إلى مسامعهما، فيحمل لهما الهواء في طياته رذاذها المنعش، وكان حفيف الشجر يبدو لهما كما لو أن رتلا من السيدات يسرن بالقرب منهما وهن يجررن أذيال أثوابهن. . . ما هذا الجو الساحر الذي يكتنف سعيداً؟ وما هو هذا الدغل الرائع الذي سلبه عقله؟

وبعد أن استراحا قليلا على الحشائش الأبدية الاخضرار، بادرت كلوديت سعيدا قائلة: (كيف تشعر الآن؟ إلا تفضل المقام في هذا المكان على أي نزل في الحي الثامن من أحياء باريس؟

لم يحر الفتى جوابا وإنما استغرق في تأملاته، وكان يحس بوجل لا يدري سببه، فالأشجار المحيطة به، واحتجاب النور عنه إلا ثلاثة خيوط ملونة اخترقت الدغل الذي هو فيه، ونعيق الغربان فوق رأسه، ورطوبة المكان الذي يحف به، وحفيف الأغصان الذي يهدهد مسمعيه، كان لهذه العوامل كلها أثرها في نفسه، فتذكر الجنة، وتذكر آدم وحواء، فالتفت إلى كلوديت فوجدها قد أسندت رأسها إلى الشجرة وعلى ثغرها ابتسامة الرضى.

انقضى النهار، وحل المساء، فأقفرت الغابة من المتنزهين وركنت الطيور إلى أوكارها، وأرخى الليل سدوله، فلم ير الفتى والفتاة من النور إلا ما كان يشع من أعينهما، ولم يسمعا من الأصوات إلا ما كانا يصدرانه من نفثات، ولم يجدا شيئا يدرأان به عن نفسيهما برد

<<  <  ج:
ص:  >  >>