كذلك حتى دخلت هذه الفتاة، وكانت بنت ست عشرة كاعبا غرة مكلثمة بيضاء ذات غضاضة وبضاضة وخفر، من رآها رأى ملامح طفلة حلوة فتانة بطهرها وجمالها، في وجه خَوْد عذراء، على جسم راقصة مِفَنَّة، في ثياب عروس. . . . فلما رآها وقام للقياس. . . ومدَّ يده إليها أحس بقلبه يجب وجبانا منكرا، وبأنفاسه تتلاحق حتى كاد يدركه البهر، ولم يكن قد أصابه ذلك من قبل، وقد (طالما) رأى فتيات أجمل منها وأبهى وقمن أمامه بالغلائل ومسهنَّ وقاسهنَّ، فما صنعن به مثل هذا، وما كان تقيا ولا عفيفا، ولا يمتهن هذه المهنة رجل ويخيط للنساء ويبقى عفيفا، ولا تمشي إليه لتخيط عنده عفيفة ولا شريفة ولكنه لم يكن مشهورا بالفجور، ولم يكن ماجنا مستهترا فمن هنا عدَّه أهل هذه الأيام. . . أمينا صاحب خلق متين!
وأحسَّ بالفتور في أعصابه، ولكنه تماسك وتحامل على نفسه حتى أتمَّ القياس، وتكلم فعجب في نفسه أن وجد صوته يتهدج ويخرج مبحوحاً مخنوقاً، وما عهده كذلك. . . وخاف أن يفتضح فاستأذن في الانصراف، وخرج وفي نفسه عواطف متضاربة، فهو يرجو العودة إليها ويريد الفرار منها، وهو قد سعد بلقائها ولكنه يتمنى إن لم يكن عرفها. ولما وصل إلى دكانه لم يستطع أن يبقى فيه، وأحس كأنه افتقد شيئاً، وأنه يحيا في فراغ مخيف، وكان له، (وتلك من لعنات هذه الصناعة) عاملات وكان يأنس بهن ويلهو، فأعرض اليوم عنهن ولم ينظر إليهن، ووجد تراخياً في بدنه وشيئاً مثل الدوار في رأسه، فترك الدكان وذهب إلى أقرب قهوة إليه، فألقى بنفسه على كرسي فيها وأغمض عينيه وراح يحلم يقظان، ولم يكن يتخيل الفتاة بلحمها ودمها وجوارحها، وإنما كان يرى لها صورة غامضة عجيبة فيها كل ما كان يحلم به من ألوان السعادة وصور الجمال، ولم يكن يفكر في (وصالها) إنما كان في فكره التقديس لها والرغبة فيها والخوف منها والغيرة عليها من عيون الرجال بل من عين الشمس التي تراها!
وهذا هو الحب العذري، من النظرة الأولى، وإن أنكره العلماء وأقاموا الأدلة على إبطاله. لقد عشقها وهو لا يعرف اسمها، ولا دارها، ولا مطمع له في الوصول إليها.
ومرت الأيام ولا أصف لك كيف مرت عليه، وعاد إلى المدرسة ومعه الثياب ليجربها على صاحباتها، ودخلت البنات عليه، وخلعن أمامه ولبسن، وتحركن وحركن. . . وتكلمن