وسمعن. . . ولكنه لم يسمع ولم يره، وكان ينظر إليهن كما ينظر النائم إلى خيالات تجوز به وهو غارق في لجج الكرى، وكان فكره معلقا بتلك وحدها، وكان يتمنى لرغبته فيها أن تمر الدقائق مسرعة حتى يراها، ويرجو لخوفه منها أن يبطئ الزمان حتى يتهيأ للقائها. . . وكان كلما دخلت واحدة اضطرب وخفق قلبه يحسبها هي. . . حتى جاءت. . .
وكان لطول ما فكر فيها وخلع عليها خياله من سمات الجمال وأحاطها به من التقديس والإكبار , لا يراها فتاة جميلة كالفتيات بل ملكا هبط من سمائه، أو حوراء من حور الجنان نزلت إلى الأرض، وكان يقدس كل شعرة منها، وكان يخشى أن يمسّ طرف ثوبها، لأنها كانت عنده كالزهرة التي يذبلها اللمس، فكان يخاف عليها ويرعاها من بعيد، ويحسّ الرغبة بأن يمرغ وجهه بتراب قدميها، وأن يقبل حذاءها. . . حماقة من حماقات العشاق. . .
ولم تكن البنت قد سفرت من قبل، أو خالطت الرجال، فهي لا تزال مستحيية، فتهيبت أن تجرب الثوب ووقفت. . . فأعانها المدرس وأنزل بيده جواربها، وخلع عنها ثوبها، وبقيت بـ (الشلحة)، فلما أبصرها الخياط كذلك، ورأى المدرس وهو يعينها على نزع الثوب عنها، اهتز كأنما مشى فيه تيار كهربائي، واجتمع في قلبه دمه كله، فخفق حتى كاد يخرج من صدره، وشحب وجهه حتى صار بلون قشرة الليمون، ثم دارت به الدنيا، ولم يعد يشعر بشيء. . .
لقد أغمى عليه فحملوه إلى دكانه، ولم يعد إلى المدرسة أبدا.
وهام الرجل بها، وزهد في كل امرأة من أجلها، ولم يبقى له في الحياة مطمح سواها، فرحمه جماعة من جيرانه، وذهبوا يطبونها له من أبيها، وأخذوه معهم، فلما عرف ما جاءوا له، أباه عليهم وردهم، فخرج الشاب وقد ضاقت به الدنيا، ولم يجد سبيلا يسلكه إلا سبيل الفجور. . . فأوغل فيه، وسخر ماله وشبابه لإفساد الفتيات، فأفسد منهن العشرات، وهنّ يتهاوين عليه كما تتهاوى الفراشات في النار. ومرت الأيام وسمع إن البنت قد خطبت، وعقد العقد، وزفت إلى بعلها.
هنالك أيس الرجل فانقلب شيطانا، واستحال ذلك الحب في نفسه بغضاً، وكذلك يكون البغض الشديد من علامات الحب الشديد، وأقسم ليدمرن حياتها وحياة أهلها، ولو دفع ثمن ذلك ماله كله وحياته، واستوحى الشيطان الأكبر، ورفاق السوء. . .