مغرقة في الوجوم والتفكير مستسلمة إلى الحزن الصامت واليأس الأليم. وأخذ جسمها يذوى ويذوب كالشمعة المحترقة يوما بعد يوم، وغاضت ابتسامتها وخبا ضوءها وخفت صوتها. فراعنا الأمر وتحيرنا ماذا نفعل. ولم يكن في عزمنا أن نتخلى عن وديع أو نعهد به إلى مرضع أو مربيه فقد كان أثيراً عندنا حقا إذ لم يكن لنا ولد ذكر سواه، ولم يكن بيدنا مالا ننفق منه على المربيات والحواضن لو أردنا ذلك. وحار في أمرها الطبيب وكثر ما تناولته من الأدوية والعقاقير صابرة طيعة لا تتمرد ولا تقاوم، وقد ذقت مرة دواء كانت تشربه فوجدته مرا حادا كريها تعافه النفس؛ وعجبت كيف كانت تشربه في طوعية واستسلام فأرقته وأعفيتها من شربه، كأنها تنازلت عن إرادتها إذ لم تعد تنتفع بها، أو رفضتها ورمت بها في وجهنا. فلم تبد رغبة في شيء أو تتذمر من أمر. حتى أن ماري اقترحت عليها مرة أن تأخذها عندها لتعتني بها وتقوم على راحتها وتسليتها وتتبناها فقالت نعم. فسألتها أنا هل ترغبين حقا أن تمضي مع ماري إلى دارها؟ فقالت نعم. أم تؤثرين البقاء عندنا؟ فلم تزد على أن قالت نعم! فنظر بعضنا في وجوه بعض قانطين حائرين.
ولبثت عند ماري أياما لم تزد فيها حالها إلا سوءا على سوء، فلم نجد بدا من استرجاعها. وشرع أبوها يطوف بها المنتزهات ويقتني لها الملاهي والألاعيب والحلوى أصنافاً وضروباً، ولا يألو جهدا في تسليتها والترويح عنها، في غير جدوى.
ومالي أطيل عليك وأثقل على نفسي ونفسك. . . إن ذكرى أيامها الأخيرة لتحز في فؤادي كالمدية الكليل، وتشب في ضلوعي مثل النار. . . وجدناها ذات صباح مثل جثة هامدة في فراشها شاخصة إلى الأرجوحة ببصرها كما يشخص القتيل ببصره إلى القاتل. . .).
واختنق صوتها بالبكاء وانهمرت من عينيها الدموع. فلم أتمالك أن أخرج منديلي وأجفف به عيني الدامعتين.
هذه هي قصة إيلو أو إيلا أو إيلين أو ما تشاء. . . كما سمعتها من أمها. لقد كانت ذات نفس كبيرة وحس دقيق رهيف، جاوزت حدّ الطفولة في الشعور بالعظمة والكبرياء. . . غيورا يهمها أن تكون ملحوظة أبداً معنيا بها لا ينازعها في ذلك منازع ولا يزاحمها على منزلتها عند أبويها إنسان. فماتت شهيدة بطلة بعد أن ناضلت وجاهدت، وأبلت أحسن البلاء؛ وحيدة لا معين لها ولا نصير، شجاعة صابرة لا يعروها ضعف ولا جزع، ولا ينال