والحال بالموازنة كالحال في النقد سواء بسواء. تنازع علماء الأدب في أي الشعراء أشعر، وذهب الخلف بينهم كل مذهب، فلم يتفق ناقدان على رأي، ولم يجتمع رأيان على شاعر، وكان مدار المفاضلة على الأبيات المفردة من الشعر والصفات العامة للشاعر. فأبو زيد محمد بن الخطاب القرشي أضاع ثماني عشرة صفحة من كتابه جمهرة أشعار العرب في أن من علماء اللغة في القرنين الثاني والثالث من كان يقدم امرأ القيس أو زهيرا أو النابغة أو الأعشى أو لبيداً أو عمرو بن كلثوم أو طرفة، ولكن إذا نظرت في أسباب المفاضلة لم تجد فيها ما يقنعك على أن تتابع واحدا منهم فيما يرى. وإذا قرأت (باب المشاهير من الشعراء) في كتاب العمدة لأبن رشيق القيرواني، وهو فصل نسخ أكثره جلال الدين السيوطي في كتابه (المزهر في علوم اللغة) لم يزدك اختلاف العلماء في الحكم على الشعراء إلا ريبة وحيرة. ولقد تشعبت الآراء وتعارضت الأهواء في الموازنة بين جرير والفرزدق والأخطل، ثم بين مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي العتاهية، ثم بين أبي تمام والبحتري والمتنبي، ولكنك لا تدري إلى اليوم علام أستقر الرأي وكيف انحسم الخلاف. ولعلك لا تجد الفرق بعيدا بين حكم يصدر جوابا عن سؤال أو عرضا في مقال، وبين حكم يصدر عن رواية وبحث في كتاب قائم بذاته، فكتاب (الموازنة بين الطائيين) لأبي القاسم الحسن بن بشير الآمدي، يبتدئ بذكر أخطاء أبي تمام كقوله:(وقال:
ضحكات في إثرهن العطايا، وبروق السحاب قبل رعوده فأقام البرق مقام الضحك، والرعد مقام العطايا، وإنما كان يجب أن يقوم الغيث مقام العطايا لا الرعد). ثم يستطرد إلى تخطئة الشعراء القدامى في المعاني، ثم ينتقل إلى سرقات أبي تمام ويعود إلى تخطئته في المعاني، ثم يعقد بابا لما في شعر أبي تمام من قبح الاستعارات، وبابا في سوء نظمه وتعقد ألفاظ نسجه، ثم بابا فيما كثر في شعره من الزحاف واضطراب الوزن؛ وينتقل بعد ذلك إلى البحتري فيسلك في الكلام عنه الطريقة التي سلكها في الكلام عن أبي تمام؛ ثم يخلص إلى الموازنة بين الشاعرين فيقول: (وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتفق فيها الطائيين فأوزان بين معنى ومعنى، وأقوال أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن افصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد، وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت