للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه، وكان لفرط شجاعته يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده، ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم، وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر. . . ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها فضاعت فيه فلم يبق لها أثر، فلما شد رحاله وسافر ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفرة، لم يلق عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة. . . من سمرقند إلى بخارى إلى بلخ إلى هرات إلى قزوين إلى الموصل إلى حلب إلى دمشق. . . دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند. . . وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟ فأين ملك خاقان وكسرى! لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة، تلك القرية التي هزها محمد بيمينه، فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملكوها. . . وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان. . . وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر. . . وكان كلما تقدم ورأى جديدا من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقا من لقاء الخليفة. . .

وأفاق يوما من ذهوله، بعدما صرم في هذه الرحلة أشهرا، على صوت الدليل، وهو يهتف باسم (دمشق).

هذه دمشق سر الأرض، هذه سدة الدنيا، هنا التقى والعلي والمجد والغنى والجلال والجمال. . . من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند، وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضا أبعد وأنأى، حتى تجوز أسبانيا، هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسكندر ولا خاقان. . . والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخاف عن أمره، أو يرد قوله. . .

ولكن كيف الوصول إليه؟ وأني لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟ وخالط قلبه اليأس. . . فسأل عن خان ينزل فيه فأرشد إلى خان أمضى فيه ليلته، فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها، وخرج ليلقى الخليفة. . . وأقبل على أول إنسان لقيه يريد أن يسأله عن (القصر)، فاعترته هيبة شديدة، وخاف من مواجهة الرجل الذي يحكم نصف الأرض، والذي لا يبلغ

<<  <  ج:
ص:  >  >>