فقال الخليفة: والله ما أمرنا نبينا بالظلم ولا أجازه لنا، وأن الله أوجب علينا العدل في المسلمين، يا غلام. . . قلما وقرطاسا!
فجاءه الغلام بورقة قدر إصبعين، فكتب عليها أسطرا وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد!
ورجع يطوي هذه الشقة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام، ووجهته وجهته، وفي قلبه إيمانه، وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته. . . أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته، إذ يؤم المصلين واحد منهم فلا قساوسة ولا كهان، ويصلون في كل أرض فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعا صفا واحدا فلا كبير ولا صغير، ولا مأمور ولا أمير، وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عباد الله، هم رهبان في الليل وجن في النهار، خاشعة قلوبهم وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين، فلا يبالون الدنيا كلها بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها!
ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً، لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) من يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدم له قراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافرا وبين عودته مسلما، وكيف كان يشعر بطول الشقة، وبعد الطريق، وألم الغربة، فصار يتقلب في النعيم، ويحمل على أكف الأخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين.
ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه هذه المرة تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فرقا من أسراره وخفاياه، فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة، لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار، ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر، ففتح له ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبدا، ووصف لهم ما رأى، فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة. . . وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوما إلى العامل، فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاض يحتكم إليه كهنة سمرقند وقتيبة، فما قضى به نفذ