للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قضاؤه!

وأطاع العامل ونصب لهم قاضيا جميع بن حاضر الباجي، رعين موعد المحاكمة!

ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر، أظلم وجهه بعد إشراقه، كما تربد في سماء النهار الصحو السحب السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجرا صادقا فإذا هو برق خلب. . . وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين. . .

. . . وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاص منها ودان، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجين لا يراهم من أحد، وجاء القائد الفاتح قتيبة، وكانت المحكمة في المسجد فقعدوا ينتظرون القاضي.

ولم يكن الكهنة يأملون في شيء. . . وفيم يأملون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟ وعلى من يحكم؟ على القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرض المشرق قائد أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحا، اسكندر العرب: قتيبة؟

كانت القلوب تخفق ارتقابًا لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وضعت في عنقه أعظم أمانة وضعت في عنق قاض، والذي ألقى بين حجري الرحى، فها هنا مصلحة أمته، وسيادة دولته، والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة وإنها لمحنة الضمائر. . .

وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة، كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو، وأما المسلمون فلم يكونوا يشكون، ولم تكن تداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما الوطن؟ إن وطن المسلم دينه فحيثما صاح المؤذن: الله أكبر، فثمة وطنه. . . وأن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل ولو كان فيه نفع الأمة، وكان فيه الغنم الأكبر.

ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل ضئيل الجسم شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له، ووراءه غلام، فجاء حتى قعد على الأرض محتبيا، وقام غلامه على رأسه. أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على قتيبة العظيم وعلى أميره وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو

<<  <  ج:
ص:  >  >>