الرسالة وإرشاد النبوة، ثم هي إلى ذلك مضمار لتصاول قرائح المجتهدين من العلماء، وميدان لذوي الأفكار الحرة المخلصة لله وللحق، استهدوا بهديه، وسعوا وفي يدهم مصباح هدايته، فعرفوا من كتاب الله وسنة رسوله وجوه المصالح العامة والحكم التشريعية السامية، وقواعد التشريع وأصوله العادلة، وبها حكموا على الحادثات الجزئية والمسائل الفرعية، فاستقام لهم من ذلك كله تشريع قيم، واستوى منه قانون سماوي، سداه جلب المصالح، ولحمته درء المفاسد - انتظم جميع ما يحتاج إليه الأفراد والأمم من عبادات ومعاملات، وأحكام مدنية وتجارية، وشئون جنائية، وأحكام سياسية واجتماعية: فقد نظم علاقة العبد بربه، وحدد علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وبين علاقة المجتمع بالفرد، ووضع أساس النظم والعلاقات بين الأمم بعضها وبعض.
ورائده في ذلك كله تحقيق العدل والمساواة بين الناس كافة، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين ضعيف وقوي، لا مقصد له إلا إقرار الحق والمعدلة - ألا ترى إلى قوله جل شأنه:(يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وورد في النهاية في غريب الحديث:(لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) أي لا طهرت. ويقول صلوات الله وسلامه عليه:
(المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وفسر الميزان بالعدل في قوله تعالى:(الله أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وفي قوله:(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
هذا هو دستور التشريع الإسلامي. العل مبدؤه وغايته، والحق قوامه وشرعته - سن ذلك سيد الخليقة ومصلح البشر خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم سار على سنته خلفاؤه الراشدون، فقد جاء في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري: وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك).
فليت شعري - إذا كانت شريعة الإسلام قد بلغت المدى في الحرص على العدالة والمساواة، ووصلت الغاية في الاستمساك بالحق والاعتصام بحبله المتين، ولها من