الأصول الراقية والقواعد السليمة والمبادئ السامية ما يعتمد عليه في وضع الأحكام عند عدم النص - ما الذي حدا الولاة على تنكب أحكامها، والحكم أن يبحثوا عن قانون غير قانونها حتى تجرءوا في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على مخالفة الشرع؟!
زعموا أن لهم في ذلك حجتين - نقول ذلك فرضا وتوسعا وإلا فهما في الحقيقة وهمان أو شبهتان داحضتان:
حجتهم أو شبهتهم الأولى:
توهموا أن الشريعة ناقصة لا تقوم بمصالح الناس ولا بسياسة الأمم وحاجاتها، ولا تساير تطور الزمان، ولا تفي بمختلف الأحوال وما جد من ضروب المعاملات - فطوعت لهم أنفسهم تعدى حدود الله ومخالفته في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ عظيم وضلال مبين، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط في كل شيء مع التزام ما بينه من كليات الشريعة وأصولها ومبادئها - فحكمه كما يقول ابن القيم دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، فأي تشريع يقر العدل ويجري مع الحق هو من الشريعة غير خارج عن نطاقها.
على أن سعة أصول الشريعة الإسلامية وتعددها، وسمو قواعدها، ورجوع علمائها إلى الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع عند الاجتهاد واستنباط الأحكام، ثم بحوث المجتهدين في الفقه الإسلامي وتوسعهم في البحث، وما أمرنا به من الاجتهاد عند عدم النص، ومن ترك التقليد - كل أولئك يهدم هذه الشبهة من أساسها، فلا يكون هناك نقص في الشريعة، وإنما النقص في أداء هذا الواجب.
وإن في الشريعة الإسلامية من بحوث المجتهدين السالفين في المسائل المدنية والجنائية والمعاملات ما يدحض هذه الشبهة.
فمن ذلك أنهم أجازوا الحبس في التهم والضرب فيها - غير أنهم قسموا المدعي عليه في دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل وقطع الطريق والسرقة ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرا من أهلها، أو مجهول الحال.
فإن كان بريئا لقرائن شاهدة لم تجز عقوبته اتفاقاً. وإن كان مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور - فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام.