ما أعظم فجيعته! أبوه مات، وكان على أبيه أن يموت ماجدا كما مات من لم يكدحوا في الحياة كدحه حتى ممن عرفهم فؤاد فيما اجتاز من شبابه. ولكن، وا ذلاه! إن الحياة لم تمكن أباه من شئ، لقد أفقدته التجارة ثروته، ولم يدع له الجهاد في سبيل الرزق فرصة فسيحة للجهاد في سبيل غرض كبير. لقد مات بعد طول النصب وفرط اللغوب ولكنه لم يورث بنيه رفعة ولا ثروة ولا مجدا. تركهم بقلوب كسيرة، ومثله كان جديرا بما يذل من ذات نفسه أن يترك بنيه في مقام كريم ونعمة.
هذه أفجع شعب المصيبة! هكذا قال فؤاد لنفسه.
وجاء شيخ الحارة، ومعه معاون المجلس الحسبي، يحصيان تركة الميت. . .
يا خجلتا! ان التركة ليست إلا حطام ثروة، كل شئ أودى به الحرص على شئ واحد نشأ (فؤاد) فرأى أباه يردد لفظه ويتغنى بمعانيه: الشرف.
وأحس فؤاد يتمه ويتم أخوته أقوى ما يكون الإحساس، وتبدت له المصيبة فادحة مروعة، فبيتهم اليوم بين أرملة وصبيان وصبيات لا مال لهم، فهم حريون ألا ينجحوا في الحياة لأنهم فقدوا عصبها. وهم بعد لا يملكون الاسم الضخم الذي يوارون فيه فقرهم، أو الجاه البعيد الذي يعتصمون به من العالم الساخر.
وريع فؤاد، ورخصت عبراته، فهي مبذولة كلما رأى أخوته وأمه، وكلما رأى الأقارب أو الأباعد، وكلما رأى أحباءه، وكلما رأى أعداءه، وكلما رأى غنيا أو ماجدا، وكلما رأى فقيرا أو مغمورا، وكلما سمع عن المباهج أو عن الأحزان.
وشعر أنه ما دام كبير اخوته فقد أصبح أباً لهم بعد أبيهم، وعليه أن يضمن لهم دوام الدعة، وأحس أن بينه وبينهم فرقا كبيرا في السن. إن الأربعة والعشرين عاما التي سلخها طفرت فجأة فصارت ستة وخمسين كما كانت سن أبيه.
وجاءت ليلة الجمعة الأولى، فأضاء فناء البيت والمناظر، وقعد يستقبل المواسين من ذوي قرباه ومن خاصة أبيه، والحزن ينهشه نهشا، والجزع على مستقبله ومستقبل اخوته وأخواته الذي ما زال في ضمير الغيب يهفو بقلبه.
واستمتع في غير اكتراث كعادته إلى كلام المواسين، وغلبه البكاء كعادته أيضاً فانخرط فيه. . .