العذر أن ألتمس لنفسي ولمن أشاء مكن الناس أفقاً أرى فيه تأويل هذه الظواهر الفاسدة والجرائم المنكرة كي أوفق بين عقائدي الدينية في إرادة الله بالناس الخير مهما بدا هذا الخير ملفوفاً بالشر، وبين سير الحياة بالأحياء. . . وإلا فقد عرضت نفسي لما تعرض له بعض من كتب إلى منذ حين يقول إن الحياة الإنسانية لغير غاية، وإن الله - تعالى - قد فاتت عليه الغاية من خلق هذا النوع فقد خلقهم لعبادته، فلم يعبده منهم إلا الأقل!
على إن كل ما ضاعف في الناس فعل الشر وسلبهم الاعتقاد في الخير هو ذلك اليأس من الخير، وذلك الاعتقاد بأن الشر هو الغالب على الطبع البشري، وذيوع هذا الاعتقاد في هؤلاء المحاربين المصريين، هو الذي جعلهم يحاربون بروح التدمير وعدم الإبقاء على شيء، وما دامت الحياة للشر فليخبطوا فيه خبط عشواء على نحو بيت المعري:
وبصير الأقوام مثل أعمى ... فهلموا في حِندسِ نتصادمْ!
أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن نؤمن بأن هذا النوع الإنساني يمكن الإقلال من شره، وإقامة حياته على مثل الدولة الإسلامية الأولى، أو على مثل دول سكان الشمال من أوربا الحالية، وعندئذ نجد في أنفسنا العزائم على الجهاد والصبر والكفاح في هذا السبيل حتى نصل أو نقارب بحسب الطاقة وبحسب قوانين الدنيا. . . وعندئذ يستمر سير الحضارة والإصلاح مطرداً ويظل الخير له دولة في الحياة كما أن للشر دولة، ولا ضير على العقائد أن يبقى من الشر بقايا ما دام الخير هو القانون الحبيب للنفس تلوذ به وتعتصم بعواصمه عند المواقف الفاصلة. . . وإما أن نكفر بهذا النوع ونهدر قيمه الخلقية، ونفقد آمالنا في انه مخلوق لغايات كريمة، ولا نستمع لوصايا الأديان القويمة بالبر وحسن الخلق والدعوة للخير والغضب على الشر، وعندئذ فلنخلع قناع المدنية عن وجوهنا وجوه الذئاب والخنازير والنمور، ولنفضح كل مواضعات النفاق الاجتماعي، ولنعلن بصراحة أن وصايا الأديان أخاديع أو أغلوطات عظيمة من عبقريات التاريخ الكاذب المدلس، وان الإنسانية يجب أن تتخذ لها فلسفات فردية لكل فرد في الامة، ولكل أمة في الأمم يرعى فيها الفرد مصلحته الخاصة، والأمة مصلحتها الذاتية، وتسعى كل أمة أن تكون أربى من غيرها، لأنه لا رحم ولا نسب بينها وبين غيرها، وإنما هي قطعان وحيوانات بشرية تسعى (لتعيش) في أضيق حيز، وهو حيز (الذاتية).