للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجعل ينشد:

يقول بنو عمي وقد زرتُ مصرهم ... تهيأ أبا عمروٍ لشهر صيام

فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام

فبادرت أرضا ليس فيها مسيطرٌ ... عليَّ ولا منّاع أكل طعام)

كانت هذه القصة بذرة سيئة تولدت منها تلك الحملة الطائشة التي شنها الأدباء على رمضان. ومهما يكن من شيء، فقد حركت ما سكن في النفوس، وأطلقت ما حبس في الصدور، فخرج الأدب بصفقة رابحة كان ضحيتها رمضان المسكين! ولعل عزاءه في ذلك قول الله عز وجل: (والشعراء يتبعهم الغاوون)!

على أن كثيرا من الأدباء كانوا أقدر على ضبط ألسنتهم من إخوانهم الذين تورطوا في معاداة هذا الشهر العظيم، فنحن نقرأ في تاريخ البحتري مثلا أنه كان ضائق الصدر برمضان، متبرم النفس بطوله، ونلتمس ذلك في شعره، فلا نجد إلا متفرقات يسيرة لا تطفئ أو أما، ولا تبل غليلا، كأن يقول:

فتروّ من شعبان إن وراءه ... شهراً سيمنعك الرحيق السلسلا

ثم يكرر هذا المعنى مرة ثانية وثالثة، فإذا هاج صبره بعد مرور سبعة وعشرين من عمر رمضان لم يزد على أن يطلب من الله عز وجل أن يجعل الشهر كله ليلا حتى لا يجد النهار الذي يصوم فيه عن الطعام والشراب، وفي ذلك يقول:

قد مضت سبعة وعشر وعشر ... ما نذوق اللذات إلا لماما

ما على الليل لو أقام علينا ... أو يرانا من الصيام صياما

أما أبن الرومي، فقد أطلق العنان لقريحته الوقادة، وأنهال على رمضان بسياطه المحرقة حتى مزق جلده، وشوه أديمه، وتعليل ذلك واضح يسير، فالبختري على رغم ما له من جاه عريض لدى الخلفاء والرؤساء كان نكساً رعديدا يقول الهجاء، فيقبض بيده على قلبه ويرسل وراء شعره العيون والأرصاد يتجسسون لدى المهجوّ، ويخبرونه بموقع هجائه من نفسه، فإن لم يلق له بالا حمد الله على السلامة. وإن كانت الأخرى أخذ يتزلف ويتوسل ويحبّر النابغيات الطويلة في الاعتذار، وحسبك أن تعلم أنه قال في قصيدة القافية

ولم أر كالدنيا حليلة صاحب ... محب متى تحسن يعينيه تطلق

<<  <  ج:
ص:  >  >>