للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تراها عيانا وهي صنعة واحد ... فتحسبها صنعي حكيم وأخرق

حين قال ذلك شنع عليه أحد العامة بأنه ثنوي، فخاف على نفسه وقال لابنه أبي الغوث: قم بنا نخرج من بغداد خروجا نأمن على أنفسنا فيه، ثم خرج ولم يعد، فشخص نفسيته ضعيفة خائرة كالبحتري لا يجد الشجاعة الكافية التي يذم بها رمضان على رءوس الأشهاد. ولا كذلك ابن الرومي، فقد كان جسور القلب حاد اللسان يسوق الهجاء في الوزراء وذوي الشأن في الدولة، ثم يتزايد ويتسع فيه دون مبالاة أو اكتراث مما أدى إلى حتفه في النهاية، فمات ولم يستمتع بخاطره، ولم ينزح ركية فكره - كما قال الصولي - فإذا كان هذا شأنه، فغير كثير عليه أن يسلط لسانه على رمضان معبرا عما يختلج في نفسه أصدق تعبير. والحق أن هذه ميزة أبن الرومي يصدر عن طبعه وينقل عن خاطره مهما جلب عليه ذلك من الشرور والويلات، والجنون فنون

بدأ أبن الرومي حملته بتأدب ملموس، فلم يشأ أن يهجم بادئ ذي بدء بما هجم به أخيرا من الذم والقدح، بل اكتفى بإعلان تبرمه بطوله الممتد، وود لو مر كالسحاب، وكان جميعه كيوم أو بعض يوم، وقصارى حيلته أن يدعو عليه، وأن يرحب بأيام الفطر اللذيذة فيقول:

إذا برّكت في صوم لقوم ... دعوت لهم بتطويل العذاب

وما التبريك في شهر طويل ... يطاول يومه يوم الحساب

فليت الشهر فيه كان يوماً ... ومر نهاره مر السحاب

فلا أهلا بمانع كل خير ... وأهلا بالطعام وبالشراب

ويظهر أن ابن الرومي قد وجد أبياته صادفت رواجا محمودا لدى من يشاركونه عواطفه وميوله - وكثير ما هم - فهجم على شهر الصيام مرة أخرى ولكن بلسان أحد، ولهجة أعنف، وقسوة أشد، فود بجدع الأنف لو انتهى قبل أن يبدأ، وأعلن أن بركة هذا الشهر في طوله لا في خيره، وزاد بل تنازل عن الأجر الذي أعده الله له جزاء صومه؛ فهو يقول:

شهر الصيام مبارك لكما ... جعلت لنا بركاته في طوله

من كان يألفه فليت خروجه ... مني - بجدع الأنف - قبل دخوله

إني ليعجبني تمام هلاله ... وأسر بعد تمامه بنحو له

لا أستثيب على قبول صيامه ... حسبي تصرمه ثواب قبوله

<<  <  ج:
ص:  >  >>