والثيران في بلاد الأسبان!
حينما كان للإنسانية (باطن) تستجليه، وتستشرف فيه النور المشرق الشفيف، وتستروح فيه الأشواق الخالدة، والآفاق البعيدة. . . كانت هادئة مطمئنة مستقرة، لأنها في الأعماق هناك غنية بما تجد، مستغرقة في ذلك العالم الفسيح. . .
فلما طفت على السطح بفضل هذه الحضارة المادية البائسة، ظلت تقفز وتقفز، فلا تستقر أبدا وظلت في قلق دائم، وهياج مستمر. تبحث في كل يوم عن جديد، وتزهد بعد يوم في هذا الجديد.
إنها اللعنة التي يعدها (معجزة) بعض المفتونين بالبريق.
ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها، ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟
ولقيني بائع الكتب في أحد مقاهي المدينة. . . فشكا إلي كساد سوق الكتب في هذه الأيام! وقلت أعزيه عن خسارته أو أسليه:
- أو تحسب الناس هنا جاءوا ليقرءوا كتبا؟ إنهم يستروحون ويستجمون ويستعيدون نشاطهم المفقود!
فما كان أسرعه بالجواب. . إنه فيلسوف:
- وهل هذه السهرات الحمراء الصاخبة التي يغرقون فيها مما يريح الأعصاب يا سيدي الأستاذ؟!
وحرت كيف أجيبه. وجمجمت بالكلمات المخنوقة، في الوقت الذي كان هو يتابع حديثه بعد هذا الاستفهام:
- الكتب يا سيدي الأستاذ تباع الآن في الحي الحسيني. هناك تجد الإقبال على جميع أنواع الكتب القيمة حتى في هذا الصيف الشديد. . .
إذن ما يزال في هذه الأمة خير. هذا الخير هناك في الحي الحسيني حيث يعيش الفقراء من الناس، وحيث يعيش الأزهريون. هنالك حيث يخفت صوت الحضارة المادية الجوفاء، وحيث يحيا جزء من الماضي.
ولكن إلى كم يا ترى يعيش هذا الخير قبل أن يخنق؟ ليخيل إلى أن الأزهر في السنوات