موطنهم جيليقية مصدر القلاقل ومهب الرياح العاتية التي اجتاحت ملك العرب فيما بعد، ودكت بنيانهم من القواعد. . .
ولم يكن ولاة بني أمية في ضعفهم ليزيدوا الحالة إلا سوءا، فقد احتدمت الخصومة على عهدهم بين العرب والبربر، وبين العرب وأنفسهم من يمانيين ومضربين؛ وكان في تسلم عبد الرحمن الداخل زمام الحكم انتصار لفريق من هؤلاء دون فريق. وإذا كانت سطوة الحكم الأموي في الأندلس قد قضت على عوامل هذا الخذلان والتفرق، فإن ما وقر بسببه في النفوس من حزازات كان كفيلا بتهديد وحدة العرب وتآلفهم، مهيباً بكثير منهم إلى الثورات الجامحة والفتن المبيرة، مما ظهرت عواقبه الوخيمة في أخريات أيامهم.
بسط العرب ظلال السلام على الجزيرة، ورفعوا لواء العدل والمساواة في أرجائها؛ فارتضى سيرتهم كل من عاشرهم من الأسبانيين واتصلت أسبابه بأسبابهم. ولكن بقيت هذه الأطراف المستعصية تجيش قلوب أهلها بكراهيتهم والحقد عليهم وإعمال المكيدة لهم، حتى بين جدران قصورهم، وتحت قباب معابدهم!
فقد ذكر أنه وجد على جانب أحد أعمدة المسجد الجامع بقرطبة صورة تمثل المسيح مصلوباً، كان قد رسمها أحد المسيحيين ممن نافقوا بإظهار الإسلام وعاشوا بين ظهراني العرب يكيدون لهم ويمالئون عليهم. ولما دخل الأسبانيون قرطبة وكشفوا عن موضع هذه الصورة رسموا أمامها على الجدار المقابل لها وجهاً يمثل هذا المسيحي الذي خطها - فيما زعموا - بأظافر يده.
فكم يا ترى عدد من كانوا يعيشون بين المسلمين من أمثال هؤلاء؟ وما مبلغ بلائهم في تقريب هذه النهاية الفاجعة التي آل إليها أمر العرب بالأندلس؟. . .
لسنا نستطيع أن ننكر العلاقة بين هذه الحالة وبين سياسة التسامح الديني التي جرى عليها المسلمون في هذه البلاد بين قوم عيشت عيونهم عن أضواء حضارتهم، واسودت قلوبهم بظلام الحفيظة والاضطغان عليهم. . .
ونعني بهؤلاء القوم أولئك الذين اعتصبوا ضد العرب لغير ما سبب ظاهر؛ دون من تبطنوهم من المسيحيين وقاسموهم العيش في دعة وسلام، فارتشفوا رحيق آدابهم وجنوا ثمار علمهم وحضارتهم؛ وتبوءوا - إلى جانبهم - سني المناصب ورفيع الدرجات مما