نقف عند هذا الحد قليلا لنسأل سرفيه وأمثاله، أكان في استطاعة العرب أن يفرضوا لغتهم على جميع الشعوب التي حكموها، لو لم يكونوا أمة موهوبة جميل المزايا وروائع العبقريات؟ أم كان هؤلاء الأقوام يقبلون على تعلم العربية بمثل ما رأيت من الشوق والرغبة، لو لم تكن العربية لغة حضارة سامية ومدنية زاهرة؟. . . وأننا لنجد أمما كثيرة، بربرية وهمجية، قد فرضت سلطانها على العالم قرونا طويلة، ولما لم تكن ذات حضارة عالية بادت وتلاشي سلطانها دون أن تترك وراءها أثرا يذكر.
ولم نذهب بعيدا في الاستدلال، وهذه الأمة العربية ذاتها قد تعاقبت عليها مختلف الحضارات، وخضعت لشتى السلطات إلا أنها مع ضعفها السياسي قد حافظت على مزاياها وتقاليدها ولغتها وحضارتها، ولئن استطاعت هذه الدول أن تفرض عليها سلطانها ونظمها السياسية، إلا إنها عجزت عجزا تاما عن تجردها من ثقافتها، لتفرض عليها ثقافاتها الخاصة.
العرب في ميدان العلم وطور الاستعداد:
وقبل أن نبين مواطن الابتكار والعبقرية في ثروة الإسلام العلمية يحسن بنا أن نرجع ولو قليلا إلى الوراء لنبحث العوامل الرئيسية التي عملت في تكوين الحضارة الإسلامية، ولنرى بعد ذلك المراحل الأولية التي تخطتها هذه الحضارة العريقة في سيرها وتقدمها، قبل أن تصبح حضارة العالم بأجمعه بلا منازع فليس من شك في أن العرب وان كانوا أرباب ملاحظة في سائر العلوم، وأمة موهوبة أعلى درجات النبوغ والذكاء، إلا انهم شادو حضارتهم - شأن بقية الأمم المتمدنة - على أنقاض حضارات سابقة قديمة، ليس من شك أيضا في أن الحضارة العربية لم تبلغ حد كمالها فجأة، إذ أن ذلك أمر بعيد التصديق، ولكنها بلغته تدريجيا ولكن بخطى سريعة متزنة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
لقد كانت أوربا في العصر الذي بدت تظهر فيه طلائع النهضة العربية تغط في سبات الجهالة، وتتمرغ في هاوية الانحلال، وكانت المسيحية إذ ذاك قد بدأت بمطاردة الحرية الفكرية في أقطارها، وأخذت تنشط في إحراق العلوم الوثنية وتعقب العلماء والفلاسفة.