واستئصال شأفتهم من كل بقعة. يخشى أن يكون لهم فيها صوت مسموع، أو علم مرفوع، حاسبة إنها في بذلك تبيد من حقلها الأعشاب القريبة التي قد تحول في المستقبل دون نماء عقيدتها، وإذ كان النور يشع إذ ذاك من ناحية الجزيرة العربية فقد آخذت هذه الفئات الممتازة الراقية تؤمها آحادا وإرسالا حاملة إليها نتاج عبقريات الأمم اليونانية والرومانية الدارسة، وكانت هذه الجماعات حيثما نزلت تعيش في جو من التسامح الفكري لم تعهد له فيما مضى مثيلا.
أما في بلاد الشرق فقد أدت الحرب العوان التي دارت قبل الإسلام رحاها بين مملكتي الروم وفارس إلى ضعف كلتا المملكتين فقد غزا هرقل مملكة الفرس، فتركها أطلالا خاوية، ثم غزا الفرس مصر والشام فثأروا لبلادهم من مملكة قيصر، وقابلوا الضربة بضربة مثلها وأخذت المناوشات تتري بين المملكتين مدة طويلة، وكان من نتيجتها أن ضعف قيصر وذل كسرى؛ اما قيصر، فقد استنفدت هذه الحرب الضروس جميع اقتصاديات بلاده حتى لقد عجزعن أن يحفظ حدود مملكته، وعن دفع الإتاوة للقبائل العربية التي كانت تقوم بحراسة أطراف هذه الإمبراطورية الواسعة، وزاد في الطين بلة احتدام الجدل بين الملكيتين واليعاقبة والنساطرة حول طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية؛ وتدخل الإمبراطور إذ ذاك في هذه المجادلات، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد اليعاقبة والنساطرة، والى اتساع شقة الخلاف. وكان هرقل إذ ذاك قد طعن في السن، وأوهت قواه الشيخوخة، فسقط لذلك ألعوبة بأيدي رهبان إيليا الذين ما زالوا به حتى أوغروا صدره على يهود بيت المقدس، بدعوى انهم ساعدوا الفرس حين زحفهم على إمبراطوريته، وضربهم إياها تلك الضربة القاضية، التي صدعت فيها بنيان النظام والطمأنينة والأمن، فقتل منهم لذلك خلقا كثيرا، وجلدا وافرا، وعددا لا يعد؛ وهكذا فقد كان كل من النساطرة واليهود عونا لكل خارج على قيصر أو طامع في ملكه وإذا استهواهما قبس الحرية الذي كان يشع من ناحية الجزيرة فقد ساروا إليها يحملون معهم في سيرهم ما انتهى إليهم من نتاج المدنيات السابقة، وما جادت به قرائحهم المتوقدة؛ فتفسح النسطوريون في أرض الحجاز، وقطن اليهود بلاد اليمن؛ وكان أمرا طبيعيا أن تنشر تعاليمها في سائر أقطار الجزيرة، وان تتأثر هذه بها.
ولم تكن الحالة في بلاد فارس بأحسن منها في بلاد الروم، فقد كان الملك فيها - قبيل