والإرشاد لأيقاظ الإنسان أولا إلى (قيمة) ما يفعله الآن.
ونحن إذا أفلحنا في أن نجعل الفرد الإنساني يتذوق هذه الأعمال المادية اليومية التي يفعلها تذوقا روحيا يجعله يتلفت بالفكر والقلب إلى قيمتها، نفلح لا شك في أن نعود به إلى رؤية (القيم) العظيمة الخالدة التي تعمر الوجود، وكانت تعمر القلوب أيام العجز قبل التسلط المادي الأخير.
وبديهي أن الطفل الناشئ في هذا العصر بين القطارات والطائرات والبرقيات وعالم الكهرباء ينشأ وهو يرى هذه الأشياء كأنها أشياء طبيعية لا تسترعي انتباهه، ولا تثير اهتمامه، لأنه ألفها من منذ نشأته؛ فيمر عليها مخدرا بالألفة، ولا يعرف لها قيمة تجعله يلتفت إلى (الإنسانية) التفاته خاصة يدرك بها تفردها وامتيازها.
ومن هنا ينشأ الذهول عن (القيم) الثابتة التي في الوجود؛ كالحق، والخير، والجمال، والمروءة، والإيمان، وغير أولئك من معايير الحياة القديمة التي كانت تسجد على أقدامها قلوب الناس أيام العجز.
وما أدري: لعل هذا الكائن الإنساني سيأتي عليه عصر سيشعر فيه بقدرة فائقة، ولعله حينئذ يستحي كما يستحي الخلائق العقلاء الكاملون أن يعتدوا على (قيم) الحق والخير. لان حياة الإنسان القادر لا تستقيم ولا تستمر إن لم يقمها على الحق والخير، والحق والخير هما أساس هذا الوجود الذي نعيش فيه، ولا يعمى عنهما وعن أخواتهما كائن يخلف الله في الأرض تلك الخلافة الواسعة.
والحياة الفردية والحياة الاجتماعية قد اثر فيهما فقد (القيم) الآن تأثيرا خطيرا هو الذي يجعلهما على قلق واضطراب وتقطع أمر. فلست ترى الفرد الذي يستحي من نفسه إذا فعل القبيح أو الضار حينما يخلو بتلك النفس اللوامة؛ لأنه صار يرى الأعمال بدون (قيمتها)، وصارت الفلسفات الأبيقورية والميكيافللية تمهد له وتبرر عمله، وتسعفه بالأعذار الكاذبة الخادعة، فلا يسمع لضميره صوتا ينكر عليه، لأنه فقد الحساسية بالقيمة الخلقية للأعمال، وأسعفته الحريات التي صارت شعار العصر، واختلطت فيها حرية الفكر والرأي بحرية الطباع، وحرية الطباع معناها الانطلاق وراء البدوات والنزوات، والبدوات والنزوات هي امتداد حياة الطفولة التي لا تدرك (قيم) الأشياء، وامتداد طيشها الذي لا