للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فكان أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف والظرف، ولم نر نحن الصغار من يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها، أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أُسلّم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقودا (نحاسات) صفرا لامعات كالدنانير، و (متاليك) جددا، ولم تكن قد عرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها، فاجتمع لدي مبلغ من المال، هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة رجال (الشركة الخماسية) في دمشق، ولكني أخذته حلالا بطيب نفس، واخذوا هم ما أخذوه حراما انتزعوه من فم الأرملة واليتيم؛ فكان بردا على قلوبهم وسلاما في لهب هذه الحرب، ولكنه سيكون من بعد نارا آكله في أكبادهم، وسمَّا هاريا في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيما متسعرا يوم المآب. . . فارتقبوا - أثرياء الحرب - أنا معكم من المرتقبين!

وكانت دارنا في (العُقَيبة) فكان أول ما لقيت من العيد (جامع التوبة)؛ هذا الجامع المأنوس الذي يملا جوّه دائما خشوع وأنس، ولم اكن ادري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي، وذهبنا إلى (الأموي)، وكان صوت التكبير ينبعث منه قويا مجلجلا، كأنه هدير (بردى) عند شلال (التكية) فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم اعلم ما هي؛ شعرت بالحماسة التي تغلى منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيدا بشريا أروع منه روعة أو اشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمت بعد إن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون، وتساقط الأسوار، وتفتح لهم به أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه (الأخوان المسلمون في مصر) شعارا لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قلادة أمجادنا التي طوقنا بها عنق الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض فتردده معهم الجبال والأودية. والمدن والقرى: الله أكبر، الله وأكبر، لا اله إلا الله - الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد!

ودخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه، أو ما كنت اسر به، وجدت - ولم أكن ادري - متعة الدين والدنيا إذا اجتمعنا: الكثرة والألفة والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر،

<<  <  ج:
ص:  >  >>