والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار، وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في (المشهد) بالأزر البيض والملاءات الساترة، ما يظهر منها عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة.
كذلك كان بلدنا قبل أن تصله هذه (الحضارة) الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نقدم عليها، جامدين لم نعرف هذا الميع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البالوعة. . . أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها (المائعون)؟!
ثم أممنا (مقبرة الدحداح) فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه، وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة دار الوحشة والعبرة قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها (الدُّويخات) منصوبات، و (القلاّبات) قائمات، والعربات الصغار مزينات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصب وذو الطرد وذو الحواشي، راكبون على أفراس (الدويخة) تدور بهم، أو جالسون في سرر (القلابة) تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التل، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشرط الحرير يخيل للرائي من كثرته انه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسرادقات، وباعة (القضامة) و (اللب) و (عرق السوس) يجولون بين الناس ينادون اعجب النداء، وبياع (الفول النابت) قد أوقد ناره ورفع قدره، ونصب مائدته، وحف به الصبيان والبنات، وصاحب (صندوق الدنيا) قد حط صندوقه، وقعد حول الأولاد، ينظرون فإذا هم يسيحون في البلاد، ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع؛ فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمر الأحلام لم يخلف ألا ذكرى مشوبة بألم الفقدان.
كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد. أنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤.
صبركم أيها المستمعون، ودعوني اطل وقوفي على هذه المقبرة، فأنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أو تصدقون إذا قلت لكم أن لهذه المقبرة صورا في نفسي أحلى من صور الرياض، وذكريات اجمل من ذكريات الحب؟ وان نهرها هذا