الصغير القذر اعز عليه من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه ألوا طية أفخم في عيني من أسرة (اوريان بالأس) و (شبرد)؟
إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، أن لها تاريخا في نفسي، يعرف أكثره أخي أنور العطار. فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري، فما احسن أنا تخليدها، لا أطيق أن أفي لها هذا الوفاء؟ سلوه أنسى ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها، والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا ألا عيون النجم، وما تسمعنا ألا الشواهد الشواخص. . ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى ألا ظلاما متراكبا، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام. . . ليالي كنا نعود وقد برح بنا ألام، وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قراها الناس فرأوها ندية للدمع، فياضة بالحزن. فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ماله لا ينظم إلا الشعر الباكي، ما دروا أن هذا الشعر قد نظمت حباته على قبر الوالدين، في ليالي اليتم الكوالح. . .
مساكين الأدباء. يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم، ليقيموا منها تماثيل الأدب فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملُّونها كما يمل الصبي لعبته فيرمونها فيحطمونها، ويفتشون عن لعبة جديدة. . .
مساكين الأدباء!
يا سادة:
لقد مشيت بعد في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياما قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا، ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجة التي كانت للصرماية الحمراء والعقال المقصّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع؟ أفتغيرت الدنيا أم قد أضعت عيدي؟