للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رغبة في الكسب، ويعتمد بايتسون في نفيه هذا عن ملتن على مجرد استبعاد حدوثه، فما يتفق هذا وما طبع عليه ملتن من كبرياء واعتزاز

على أن ملتن في الواقع قد ثمن ما كتب، ودفع ذلك الثمن غالياً لا يقوم بمال ولا بشيء من أعراض هذه الحياة، وأي شيء أغلى عليه من ناظريه؟ لقد كان ذلك المجاهد الحر يشكو العلة في عينيه منذ بضع سنين، وكانت تنتابهما غشاوة من حين إلى حين؛ وفي سنة ١٦٥٠ ذهب النور من عينه اليسرى، وحذره الطبيب ملحاً، وما برح يكرر عليه أنه إذا أجهد عينه اليمنى، فهي ذاهبة كأختها لا محالة، ولكنه جاد على وطنه بما بقي من بصره، قال في ذلك بعد أن وقعت الكارثة بسنتين أي سنة ١٦٥٤: (لقد كان علي أن أختار بين أن أنكص عن واجب سام أو أفقد بصري، وفي هذه الحالة ما كنت لأستطيع أن أصيخ إلى الطبيب. . . ولم يك في وسعي إلا أن أستجيب إلى ذلك المرشد القائم في داخلي، ذلك الذي لست أدري ما هو، والذي تحدث إليّ من السماء، واعتبرت في نفسي أن كثيرين قد اشتروا ما هو أقل خيراً من هذا بضر هو أعظم مما يتهددني من ضر، كهؤلاء الذين يبذلون نفوسهم مثلا ليشتروا المجد فحسب؛ وعلى ذلك فقد جمعت عزمي على أن أبذل ما بقي من بصري على قلته في أداء أعظم ما في طوقي أداؤه من خدمة للصالح العام)

ولقد أقبل المجاهد المصمم لم ينكص عن جهاده، وإنه ليعلم أن ذهاب بصره هو عقباه التي لامحيص عنها؛ وما دخلت سنة ١٦٥٢ حتى حلت به الكارثة وا أسفاه، فحيل بينه وبين النور، وغشيته الظلمة، وهو لا يزال من عمره في الثالثة والأربعين وباتت عيناه اللتان كانتا أجمل ما في محياه الأبلج الحلو أقوى دواعي الحزن والألم لكل من تطلع إلى ذلك المحيا الكريم؛ وكانت الأرض يومئذ تأخذ زخرفها وتتزين للربيع، ولكن الشاعر الذي عشقت روحه الجمال لن يرى بعد اليوم جمالا لربيع!

وما نحسب أن في تاريخه على ما يزخر به من الشواهد على شجاعته شاهداً هو أجل من هذا أو أصدق منه أو أبعد أثراً في النفوس، وإنا لنحس حياله مثل ما نحسه حيال فارس ترك في الميدان شلوا من أشلاءه: أو سقى أرض وطنه بفيض من دمه!

ولأن فقد البصر يحول بين عامة الناس وبين متع الحياة، فذهاب بصر الشاعر أو الكاتب معناه الحيلولة بينه وبين طلب الحكمة، وهذا أوجع في نفسه وآلم لخاطره من حرمانه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>