للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اللهو ومن زينة الدنيا؛ ولنا أن نتصور وقع هذا في نفس كنفس ملتن، ذلك الذي ما انصرف يوماً عن القراءة والدرس على الرغم من كثرة شواغله وتعدد مشاكله!

البطل الضرير

أحاطت الظلمة بالشاعر العظيم، فهل ذهبت نفسه حسرات على ما أصابه؟ كلا، بل تماسك للخطب وقد أُنْذِرَ قبل وقوعه، وتذرع بالصبر، وإنه لذو كبرياء حتى على الدهر وأرزائه؛ وما كان لروح مثل روحه أن تهن مهما كرثته الأهوال ونزل به ما يعيا به الرجال!

وراح البطل يتلمس العزاء لنفسه، فكان عزاؤه الذي اطمأنت إليه روحه أنه أدى لوطنه صنيعاً جليل القدر بكتابه الذي رد به على سلامسيس، فليس ضاره بعد ذلك أن يذهب في سبيل صنيعه بصره. . .

وثمة عزاء آخر يدلنا على شدة اهتمام ملتن بنفسه وفرط اتجاه فكره إلى ذاته، وعظم انطواء شعوره على ما عسى أن يكون شعور الناس نحو شخصه لا في جوهره فحسب، ولكن في مظهره كذلك؛ وذلك ما أحس به من ارتياح، إذ علم أن ذهاب بصره لم يؤثر في مظهر عينيه؛ عبر عن ذلك الارتياح في قوله: (إن عيني لم يمسسهما في مظهرهما ضر، وإنهما لتلتمعان بضوء لم تحجبه غشاوة، ومثلهما في ذلك مثل عيني من يبصر بصراً تاماً، وهذه هي الناحية الوحيدة التي أجدني فيها على الرغم مني منافقاً)؛ وفي إشارته إلى ما عده نفاقاً منه سخرية عذبة وتهكم لا يخلو من مرارة. . .

ولندع ملتن نفسه يفصح عما جال في خاطره نتيجة لما أصابه، فقد عبر عن ذلك أبلغ تعبير وأصدقه في مقطوعة من مقطوعاته؛ وأشار إليه إشارة رائعة في مقطوعة أخرى، قال في الأولى: (إذا أنا تفكرت كيف انطفأ من حولي الضوء قبل أن أقضي نصف أيامي في هذه الدنيا الواسعة المظلمة، وكيف عطلت فيَّ تلك الملكة الوحيدة التي يعد تعطليها موتاً من الموت، بينما أجد نفسي أكثر نزوعاً لأن أخدم بها خالقي وأن أقدم حسابي الحق بين يديه، خشية أن يحق عليَّ لومه؛ إذا أنا تفكرت في ذلك تساءلت في حماقة: هل جعل الله النهار للعمل، بينما أحرم هكذا من الضوء؟ ولكن الصبر كي يقضي على هذه الشكوى لا يلبث أن يجيبني: إن الله غني عن عمل الإنسان وعن مواهبه فإن الذين يذعنون لسلطانه الرحيم خير إذعان هم الذين يخدمونه خير خدمة، وإن مكانته لهي مكانة الملك المهيمن،

<<  <  ج:
ص:  >  >>