للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة.

سلك معاوية نهجاً من التسامح امتلك به القلوب، وبقدر اطمئنانه على ملكه كان تسامحه وإغضاؤه، وعلى حسب مقدرته على الأخذ كان جنوحه إلى الإهمال والترك. يقول في خطبة له مشهورة ألقاها بالمدينة عام الجماعة: (والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دَبْر أذني وتحت قدمي).

وكأنما كان يخجل معاوية أن يحول بين أعدائه وما يتشهَّون من تناوله بألسنتهم؛ بعد إذ تناولهم هو وجنوده غير راحمين طعناً وضرباً بأطراف الرماح وأسنة السيوف. ولقد دخل وهو خليفة على صعصعة بن صوحان العبدي - وكان سجيناً عنده - فقال له صعصعة في حوار بينهما غير راهبٍ منه ولا خاش: أما والله مالك في يوم بدرٍ مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: (لا حلّي ولا سيري) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟

فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:

قابلتُ جهلهُمو حلماً ومغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

. . . لقتلتكم!

ولقد أسبغ معاوية عطفه على أهل الشام لسابق مأثرتهم عنده، وزادهم على العفو واسع العطية وجميل الإقبال، حتى لأفضل مرة بمائة ألف على أبي جهم بن حذيفة حين قال له: نحن عندك يا أمير المؤمنين كما قال عبد المسيح لابن عبد كلال:

نميل على جوانبه كأنَّا ... نميل - إذا نميل - على أبينا

نقلَّبه لنخبرَ حالتْيِهِ ... فنخبر منهما كرماً ولينا

وقسم مرة قُطُفاً (جمع قطيفة) فأعطى شيخاً من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف أن يضرب بها رأس معاوية فأتاه فأخبره، فقال له معاوية: أوفِ بنذرك، وليرفق الشيخ بالشيخ!

كان تحلّم معاوية إذن تكفيراً لما سبق من ضروب الأذى أو وفاء لما مضى من سوالف الجميل. . . ولقد أراب ذلك كثيراً من المؤرخين - ممن سجلوا حوادث عصره - حتى لاتَّهموه في هذا الحلم المتصنع، ولم يثبتوه له كفضيلة يحمد عليها؛ وكان ذلك إما حقداً عليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>