للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وغمطاً لحقه، وإما توسعاً في استنباط سريرة نفسه، واستكناه بواعث تصرفه؛ جرياً على سنة المتفلسفين والنقدة من أمثال الجاحظ؛ فقد ورد في كتابه البيان والتبيين إنه قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما! فقال: لو كان حليما ما سفه الحق ولا قاتل علياً، ولو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلا الأكفاء. ثم يقول الجاحظ: وأصوب من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا أسمع، ومن تعرض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يظهر حلمه؛ وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.

وكيفما كان الرأي في حلم معاوية فقد وطد بهذا الخلق الكريم ملكه، ومسح ببلسمه الجراح التي أسال دماءها؛ ولم يكن ليلومه على هذا التصرف إلا غِرٌّ مأفون، أو نزق أرعن سفيه، وكذلك كان ابنه يزيد الذي عتب على أبيه يوماً فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفتُ أن يعد ذلك جبناً (!!) فأجاب الوالد الحصيف: ليس مع الحلم ندامة ولا مذمة. . .

أبو جعفر المنصور:

يعد الناس أبا جعفر مؤسساً لملك بني العباس، بما بذل في ذلك من همة وأنفق من جهد. . . لكن سبقه إلى تبوَّئ عرش الخلافة أخوه أبو العباس السفاح، ومن ثم يصطلح المؤرخون على تلقب أبي جعفر بالمؤسس الثاني للدولة العباسية، ولقد أفضي اللواء إلى يده بعد أخيه فنهض بأعباء الكفاح وحده، وعنف على مناوئيه عنفاً مزق به أديمهم وفلَّ حدهم، إذا كانوا من القوة ومن الكثرة - وهو الضعيف بجدة ملكه القليل بعدة أنصاره - بحيث لا تجدي مع مثلهم المهادنة، أو تدفع من بأسهم المطاولة والمصانعة. كان ملك بني العباس كنبتة غضة لا تكاد تنهض على ساقها لتأخذ حظها من الغذاء والنماء؛ إلا أن يحيطها بسياج متين من القوة والبطش يرد عنها كيد الموتورين من بقايا آل مروان، وثورة الحاقدين من شيعة آل هاشم، وسائر من يتربصون به الدوائر من العرب. ولم تكن قد تهيأت بعدُ لخلفاء بني العباس تلك القداسة التي حظوا بها على تطاول السنين، وإنما كانت أكثر العيون تنظر إليهم كدهماء ارتفعوا على ظبات السيوف إلى تلك المكانة العلية التي بلغوها، فلا غرو إذن أن تكون ظبات السيوف وحدها هي التي تحفظ عليهم هذه المكانة، وتقرها فيهم وفي أحفادهم من بعدهم. قال عبد الصمد بن علي العباسي للمنصور يوماً: لقد هجمت بالعقوبة

<<  <  ج:
ص:  >  >>