حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْلَ رمحهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء. فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة!
تلك كانت سياسة المنصور التي أخذ نفسه باتباعها مواجهة منه للمخاطر التي تتهدد ملكه؛ ولقد بعثته الريبة على أن يبسط يده بالعدوان إلى أقرب الناس إليه، من وزرائه وخاصته وأعوانه فضلا عن أعدائه والخارجين عليه. فاستقام للمنصور الأمر، وعنتْ له لوجوه رغبة منها أو كرهاً، حتى لعادت إلى نفسه بعد حين تلك الطمأنينة التي تفئُ معها النفوس إلى جانب من الحلم والإسجاح. . .
وكأنما كانت نفس المنصور قد غثيت لمنظر هذه الدماء التي أفاضها أنهاراً؛ أو عادت إليه ثقته ووقاره بعد أن طاحت بهما رهبة الحوادث، أو هو قد بلغ من نفسه هذا الزجر والتقريع الذي كان يلقاه به أمثال عبد الصمد بن علي من فضلاء أصحابه، وذوي الرأي والنصيحة فيهم؛ أو كأنما استشعر المنصور قلق الرعية من هذا الكابوس الجاثم فوق صدورها، ورأى مرجل الحفيظة والسخط يغلى في قلوب الناس فمال إلى شيء من التحلّم بقدر ما استراحت إلى ذلك نفسه، وكان عجيباً - عند النظرة غير الدقيقة - أن يصدر مثله عن مثله!
ولعله كان لا يزال يعالج هذا الأمر من نفسه، ويتكلف الدربة عليه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه. . . عندما اعترضه المعترض في خطبة له وهو يذكّر بالله تعالى فقال: أذكرك من ذكَّرتنا به يا أمير المؤمنين!
فكان من جوابه أن هشَّ للاعتراض وبش، وذكر الله واستعاذ به ثم قال: وما أنت يا قائلها فوالله ماالله أردتَ بهذا، ولكن ليقال قام فلان فقال، فعوقب فصبر، وأهونْ بها من قائل لو كانت. وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفيما ثبتت. . . ثم أخذ بقائم سيفه وقال: إن بكم داء هذا شفاءه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فما بعد الوعيد إلا الإيقاع؛ وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
كان المنصور - وقد ظفر برؤوس أعدائه - لا يضيره أن يعفو عن أذنابهم، وأن يضفي ثوب حلمه على من نهض مع الرؤساء من أوشاب الناس وعامتهم، لأن إشمال العقوبة لا