يخلو من الظلم، والعفو عن العامة - وهم سريعو النفرة سريعو الفيئة - أقوم بأسباب الملك وأجمع لشمل الرعية، وأكفل بتقدم الحياة وانتظام العمران.
قال المنصور يوماً لجعفر الصادق: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي - يعني عند ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي فيهم - وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور عيونهم ويجمر نخلهم. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأنهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون. فقال أبو جعفر: إن أحداً لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم! وإنما قلتُ هممت ولم ترني فعلت. وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم. . .
وتحقيقاً لهذه الأغراض البعيدة نفسها كان عفو المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، فإنه كان ممن شق عصا الطاعة، وداهن في شأن إبراهيم بن عبد الله العلوي. فلما صار إلى المنصور أمر الربيعَ فخلع سواده، ووقف به على رؤوس اليمانية في المقصورة في يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين، قد عرفتم ما كان من إحساني إليه وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغدر والبغي وشق العصا ومعاونة الأعداء. . . وقد رأى أمير المؤمنين أن يهب مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم!
وحمل إلى المنصور عبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مِغْداق فقال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحداً من آل قحطبة بل أهب مسيئهم لمحسنهم وغادرهم لوفيهم.
وعفا المنصور عن عمه عبد الله بن علي بعد أن تمت هزيمته على يد أبي مسلم الخراساني، واكتفى باعتقاله حتى مات في محبسه.
وهكذا بدا المنصور قاسياً شديد القسوة، ثم تكلف من التحلّم ما أفضى به إلى قريب من الحلم، عندما استتب له الأمر وبلغت الطمأنينة من نفسه مبلغها.