أو طائر منثورة على الرمال، ثم يسير فيجد خرزات حمراً مستديرة فيفاجأ السامع: أتدري؟! إن بقع الدم التي رأينا كهذه الخرزات احمرارها احمرارها، واستدارتها استدارتها، وحجمها حجمها، وانتثارها على غير نظام انتثارها! أفيعجبك هذا ويكون تشبيهاً غريباً عجيباً مصيباً مستحقاً للإطراء والثناء؟!
أحسب أن لا!.
ذلك أن السامع حين يُذكر الدم تعتريه الرهبة والإشفاق والرثاء لصاحب الدم المطلول، وحب التشفي ممن سفكه، ولا يخطر له ببال أنه مستدير أحمر منثور على غير نظام.
فمثل هذا التشبيه عبث ولغو وشعبذة، وسقوط بالقيم الفنية للشعر إلى حد سخيف!.
وهمسة أهمسها، لا بل مجلجلة أعلنها لا متردداً ولا هائباً، تلك: أن الثقة بأذواق النقاد القدامى يجب ألا تطرد، وأن استشهادهم يجب أن يكون موضع نظر جديد، وأن الاستشهاد بآرائهم يجب أن يعرض على محك التمحيص. ذلك بأنهم - على جلالتهم - قد شملهم ذوق العصر ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضة طرية، عطلا من زينة وحلية، وأثر البيئة أثر جليل في الأذواق والعقول، ومن ثم كانت تفاهة الإستشهادات، والتخريجات، وكان لجوءهم إلى الفلسفة والناحية العقلية هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، واتخذوا المبالغة أساساً للتفضيل، ولم تظهر لهم الزينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصّيغ والألوان والشعبذة اللفظية. إذا ثبت هذا فأعفني - عافاك الله - من استحسان البلاغيين، وعدم استحسانهم، فنحن نسأل الذواقين من أمراء البيان. فطه حسين والزيات، والعقاد، وأحمد أمين، وخليل مطران، أولئك المحكَّمون ترضى حكومتهم. فأما السعد والخطيب فلا نعيبهما ولكن نقول غلبت عليهما شقوة العصر وفساد الذوق، وقوة الفلسفة!.
فكلام عبد القاهر في أن التباعد كلما زاد كان موجباً لارتياح النفس ليس مطرداً، وليس أدل على هذا مما سقته لك مثلا من تشبيه الدم بالخرز الحمر.
(٤) وأما حسد جرير لعدي بن الرقاع العاملي عندما أنشد:
فناحيته أنه أعرابي لا يعرف التحبير، ولم يخبر من المدنية ما يطوع له أن يعرف قراطيسها، ومحابرها وأقلامها، فظن جرير أنه لن يهتدي إلى شيء يشبه به رُوق الأغن،