وكان يقول في دعائه ويكثر منه: اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين.
هذا هو سيد الأمة، يمسكه في الحياة نبياً عظيماً ما يُخرج غيره منها ذليلاً محتقراً، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فردّه أشعة نور، على حين يُلقِى الناس على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى تراباً، بل يرجع ظلاماً، فكأنهم يطئون المجهول بخوفه وروعته؛ ثم لا يستقر ظلاماً، بل يرجع آلاماً، فكأنهم ينبتون على المرض لا على الحياة؛ ثم لا يثبت آلاما، بل يتحول فورة وتوثباً تكون منه نزوات الحمق والجنون في النفس. هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرغون بأخلاقهم فيه - ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناساً دُوداً لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذَّره؛ أو قوماً سوساً لا ينال شيئاً إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في نظام أنفسهم فإذا هي طائشة تخيَّل لهم كأنما اختلت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشَغَلَهم وفَرَّغ مَن عداهم، وابتلاهم على مسْكَة الرزق بالشهوة المسعورة التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تُقطع منها ثمرة إلا نبت غيرها في مكانها.
إن ما وصفناه من فقر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن له عتيدٌ حاضر، وأنه لم يجعل نفسه في همّ المال، ولا جعلته نفسه في هم الفقر، وأنه لقي الحياة حاملاً لا محمولاً، واستقر فيها هادئاً لا مضطربا - كل ذلك إنما يثبت للدنيا أنه خلق وبُعث وعاش ليكون درساً عملياً في حل المشكلات الاجتماعية، يعلَّم الناس أنها لا تتعقّد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها؛ ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها؛ ولا تغلب بصولتها، ولكن بجَزَعهم منها؛ ولا تُعضل من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها، وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.
فإذا قرأت الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهداً وتَقلُّلاً، ولا فقراً وجوعاً، ولا اختلالاً وحاجة، كما تترجمها نفسك أو تحسها ضرورتك؛ بل انظر فيها واعتبرها بنفسه هو صلى الله عليه وسلم، ثم اقرأها شريعةً اجتماعية مُفصَّلة على طبيعة النفس، قائمةً على أن تأخذ نفس الإنسان من قوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها.