والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى؛ فأما الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تَغلُّل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمي بعضه بعضا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوّمتها، وقيام الزينة على الخداع وطبائعه، فيُقْبل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحب منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها. وكل ما رأيت وعلمت في رجل قُوَّته القوة فهو هناك؛ وكل ما علمت ورأيت في أنثى قوتها الضعف فهو هنا.
فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هو السواد الحيّ؛ سواد الليل حول الروح النَّجْميَّة الساطعة؛ وذلك التراب هو التراب الحيّ؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة؛ وتلك الحاجة الجسميّة هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس؛ وذلك الإقلال من فهم اللذة هو الإقلال الحيّ الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما؛ وذلك الضيق في حيز المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسع حيّز المتاع للروح. وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعرَض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي.
فليس هناك خبز الشعير، ولا الجوع، ولا رهن الدرع عند اليهودي. كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة. قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع، تخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بُعِث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها فهو بنفسه صورة الكمال الذي بعث لتحقيقه، وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي.
ليس هناك درع مرهونة في ثلاثين صاعا، ولا الفقر، ولا خبز الشعير. كلا، كلا، بل هناك تقرير أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر، وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعاً، ولا يؤخذ هوناً، بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات - في حقائق الحياة ومصائرها - ككنوز الأحلام لا تكون كنوزاً إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة. وليس إلا