إليها، وبلاء صبه الله عليهم، وخزياً لهم وغيظاً لقلوبهم، فقالوا: رجعى؛ وقالوا: مجنون؛ وقالوا: مشته محروم ينفس بهذا عن نفسه؛ وقالوا: فاجر يتستر بالدفاع عن الفضيلة، وما باليت كل ما قالوا. . . لأني ما كتبت هذا المقال، وما قبله، ولا ألححت هذا الإلحاح على محاربة تلك المفاسد، ابتغاء رضاء الناس، فأنا أعلم أن من تغضبه هذه الكلمات أطول يداً، وأشد سلطاناً، وأحد لساناً، وأقدر (ولا يقدر إلا الله) على نفعي وضري. ولكني كتبتها، وكتب مثلها الأستاذ سيد قطب، غضباً لله ولدينه ولمحارمه، وتنبيهاً لهذه الأمة الغافلة، أن يفتك بها ذلك الداء، وتحرقها تلك النار، ووطنت نفسي على حمل ما (قد) تأتيني به من الأذى، لأحمل الضعيف العاجز، بل المحارب المقاتل الذي لا تصيبه الضربة حتى يردها بعون الله عشراً. على أني إذا لمت الحكومات ورجالها، فلا أبرئ العلماء ولا الأدباء، فهم أولى باللوم، وأحمل للتبعة، إذ يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يسخرون له ألسنتهم وأقلامهم، ولو أنهم أدوا زكاة بيانهم دفاعاً عن الفضائل والأعراض، وأثاروها داحسية بسوسة على الإباحية والفجور، لما حقت هذه اللعنة علينا حتى صار يقود ناشئتنا في دورنا وأسواقنا نفر من الفجار عباد إبليس، سموا أنفسهم كتاباً وصحفيين، وصارت لهم كتب تقرأ ومجلات. . وما كتبهم ولا مجلاتهم إلا الترجمة الفنية لحديث المراقص والمواخير، وبيوت الخنا والزنا، وما يكون فيها من مشاهد وصور، تحملها كل يد إلى كل دار، فيقرؤها الشاب في المدرسة، والفتاة في الخدر، فتكون هادياً لهم إلى تلك البيوت وإماماً!
ولكن المسؤول قبل الحكومات وأرباب البيان، والمجرم الأول، ومنبع الشر ورأس البلاء، إنما هو الأب، الأب الذي يشتري لبنته لباس المرشدات، وتُبّان السباحة، ويقطع لها (تذكرة السفر) إلى بلاج الإسكندرية، وفندق بلدان، ومحافل لبنان، ويرضى لها أن تتكشف وتتعرى، وتحتك بالشبان في الترام، وتشرب القهوة عند البياع في سوق الحرير، ويرسلها إلى مدارس يعلم فيها أدب بشار وأبي نواس شباب في أعصابهم مثل النار التي في أعصابها، فبعثها في رحلاتهم التي تمتد أياماً وليالي، تنزل معهم في الفنادق، وتركب معهم في السيارات، وتؤم معهم المتنزهات، وتسمع (وكيف لا تسمع؟) الفاحش من نكاتهم، والبذيء من أغانيهم، وما أغانيهم إلا غزل في مثلها وتشوق إليها، وهي في السن التي تصرخ فيها غريزتها، وتغلي دماؤها، ويتفتح للحب قلبها!