للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كأنه المعني بمثل قول (مسلم):

فاذهب فأنت طليقُ عرضك إنه ... عِرضٌ عززْتَ به وأنت ذليل

وبمثل قول الآخر:

نجابك عرضُك منجى الذبابِ=حَمته مقاذيرُه أن ينالا!

ولقد عفا مصعب بن الزبير - لمثل هذا الباعث - عن قاتل أبيه. فقد روى أنه لما ولي العراق جلس يوماً لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز؟ - وهو الذي قتل أباه الزبير - فقيل له: أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أيظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمناً ليأخذ عطاءه موفوراً. . .!

وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي قاتل أخيه زيد بن الخطاب - وقد كان كفه عن دينه وورعه وعدالته -: والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم! قال: أفيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا. قال: فلا ضير، إنما يأسى على الحب النساء!

ولقد يدعو إلى التحلم فرط السآمة من الانتقام، ورغبة النفس عن التشفي لطول ما بلغت من ذلك حظها، والشيء إذا زاد عن حده مال ضده، وللنفوس ثورة تجنح معها إلى السكون، ومؤاخذة تميل بعدها إلى المتاركة، ويبدو ذلك المظهر واضحاً فيما يسجله التاريخ من عفو المنصور بعد حروبه مع العلويين، وتسامح المأمون بعد حوادث الفتنة بينه وبين أخيه الأمين. ولما انتهت فتنة ابن الأشعث أتى عبد الملك بن مروان بأسارى موقعة دير الجماجم؛ - وكانوا ممن خانوا عهده ونقضوا بيعته وقاتلوا جنده قتالاً عنيفاً - فقال لرجاء بن حيوه: ما ترى؟ قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو! فلم يكن بأسرع من أن فك قيودهم وعفا عنهم.

ونحن لا نكاد نفهم عفواً يصدر عن الحجاج - أضمأ ولاة المسلمين إلى الدماء - إلا على هذا الوجه، ولمثل ذلك الباعث. فهو قد أبلى في قتال أبن الأشعث أعظم البلاء، وذاق أمام قواته مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، حتى قهره في موقعة دير الجماجم فلما عرض الأسرى من رجاله على السيف مثل أمامه الشعبي في جملتهم. فقال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، واجدب الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أنقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدقت، والله ما بررتم

<<  <  ج:
ص:  >  >>